تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وقد ننظر إلى الصعاليك على أنهم خارجون عن قيم قبائلهم، إلا أن ما نراه هو أن القيم نسبية من حيث النظرة الخارجية إليها ـ كما سبقت الإشارة ـ ومن ثم فقد تختلف وجهات النظر حولها، فالإنسان العادي قد يتحول إلى صعلوك حيث يثور على تلك القيم، وذلك حين يتخذ موقفاً من قبيلته لسبب من الأسباب، فتطرده أو تهدر دمه نتيجة خروجه عن طاعتها، فيقابلها بالمثل، ويعلن خروجه الصريح عن قانونها، ويكفر بكل قيمها، مما يضطره لأن يحمل زاده ويهجر قومه تائهاً مشرداً في مناحي الحياة الغامضة، وقد يجد من هم في مثل حاله، فيتم التآلف بينه وبينهم ويؤلفون عصابة تحترف الصعلكة، وينهجون نهجاً جديداً لسد الحاجة أو للثأر من الأغنياء، كما سنفصل ذلك فيما بعد.

ويمكن النظر إلى الصعلكة على أن الصعلوك هو إنسان ضاق ذرعاً بالحياة، وبالتقاليد القبلية التي دأبت دوماً على كبح جماحه، وحالت دون طموحاته، وبذلك جهدت الفروسية الفردية المتمثلة في هذا الفارس على أن تثور على الفروسية القبلية (4).

فالفروسية الجماعية مثلت قيماً داخل المفهوم العام للقبيلة، وبما أنها هي في بعض جوانبها مظهر من مظاهر الفتوة والسيادة، فإن هذا الفارس الذي يحمل ـ هو الآخر ـ قيماً فردية يراها حقاً شرعياً لا دخل للقبيلة فيه، اصطدم بتلك الحواجز التي تحول دون تحقيق نزعاته وطموحاته، فثار ـ من هنا ـ على تلك القيم الجماعية التي تمثل إطاراً مغلقاً يمنعه من التنفس بحرية، ليُنشئ في ضوء هذا المبرر قيماً جديدة تناهضها القبيلة، وتعمل على إزالتها باعتبارها خروجاً عن المألوف، في حين يراها الفرد وسيلة لإثبات الذات، وإعلان وجوده المطلق للطرف الآخر.

وفضلاً عما سبق، فإن هناك ظاهرة اجتماعية تفشت في المجتمع القبلي، كان لها الأثر الفاعل في نشوء الصعلكة وبلورتها، ونعني بها التمييز الطبقي الذي خضع لقوانين ذلك المجتمع، فقد علل الدارسون الذين عنوا بالصعاليك وشعرهم نشوء تلك الظاهرة بأنها تمثل احتجاجاً صارخاً على التمييز الطبقي، وسوء توزيع الثروات، كما عللوها ـ فضلاً عن ذلك ـ بكونها تسعى إلى مساعدة الفقراء المستضعفين، وتتوعد المترفين الذين كوّنوا ثرواتهم الطائلة، بطرق ملتوية، حتى إن بعض هؤلاء الدارسين يجعلونها أقرب إلى الاشتراكية الحديثة. (5)

((وكانت النتيجة الطبيعية لهذا كله أن فرّ هؤلاء الصعاليك من مجتمعهم النظامي ليقيموا لأنفسهم بأنفسهم مجتمعاً فوضوياً، شريعته القوة، ووسيلته الغزو والإغارة، وهدفه السلب والنهب، ووجدوا في الصحراء الفسيحة الواسعة التي لا تقيدها قيود، ولا تحدّ من حريتها حدود، ولا يستطيع قانون أن يخترق نظامها ليفرض سلطانه عليها، مجالاً لا حدود له يمارسون فيه نشاطهم الإرهابي، ويقيمون دولتهم الفوضوية، دولة الصعاليك، حيث يحيون حياة حرة متمردة، تسودها العدالة الاجتماعية وتتكافأ فيها فرص العيش أمام الجميع)) (6) ..

ونخلص إلى أن الشعراء الصعاليك لا يمثلون ظاهرة اجتماعية شاذة في مجتمعهم القبلي، لأن القبيلة ـ في حد ذاتها ـ وفي صراعها مع الحياة قد تلجأ إلى ما يلجأ إليه هؤلاء الصعاليك أنفسهم، كأن يغزوا وينهبوا ويسلبوا لنفس الغايات والأهداف، وبنفس الوسائل التي يصبو إليها الصعاليك ويتذرعون بوسائل مماثلة، فالاختلاف قد ينحصر في أن عمل القبيلة هو عمل جماعي منظم، في حين أن عمل فرد أو مجموعة من الأفراد لا يعتمد نظاماً معيناً، وبذلك لا يبدو هناك تناقض في طريقة الصعلكة، فالقبيلة هي التي اختلقت في نفوس أبنائها من الصعاليك هذه الظاهرة، لأنها ـ في الواقع ـ مرتبطة ارتباطاً شديداً بالصراع من أجل البقاء، ولكن تنامي الإحساس بالعصبية القبلية يأخذ في التناقص لدى الصعاليك، وهذا ما يشير إليه أحد الدارسين قائلاً: (الظاهرة المهمة التي تلفت النظر في حياة الصعاليك العرب الاجتماعية هي فقد الإحساس بالعصبية القبلية التي كانت قوام المجتمع الجاهلي وتطورها في نفوسهم إلى (عصبية مذهبية) وهي ظاهرة من السهل تعليلها بعدما فهمنا الظروف الاجتماعية التي وُجد فيها هؤلاء الصعاليك، فأمَّا الخُلْعاء والشذاذ فقد تخلّت عنهم قبائلهم، وسحبت منهم الجنسية، القبلية، فكان من الطبيعي أن يفقدوا إيمانهم بكل معاني القبيلة، وأن يكفروا بتلك العصبية القبلية التي لم تعد لها قيمة في حياتهم)) (7).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير