ـ[بل الصدى]ــــــــ[05 - 01 - 2010, 02:27 ص]ـ
و لم تكن نفس كثيّر خلوًا من الألم الذي يسكن جنبات النفس إذا يئست، بل قد تجتاحها موجاتٌ من الحزن كأنها سكراتٌ، فتضرب في عمقٍ سحيقٍ من قلبه، حينذٍ نجد أمنياته تنحو منحًى آخر يضجّ بالشجن، فيرسم أمنياته في صورة أحداثٍ متتابعةٍ تكشف عن غرقه في لجة من الأسى الذي يمليه واقعٌ يقصي الحبيب و السلو معه، و يدني الشوق و الألم معه، فيقول:
فليت قلوصي عند عزّة قُيّدت=بحبلٍ ضعيفٍ حزّ منها فضلّتِ
و غُودر في الحيّ المقيمين رحلُها=و كان لها باغٍ سواي فبلّتِ
و كنتُ كذي رجلين: رجلٍ صحيحةٍ=و رجلٍ رمى فيها الزمان فشُلّتِ
و كنت كذات الظلع لمّا تحاملت=على ظلعها بعد العثار استقلّتِ
و ما كانت هذه الأمنيات إلا ثمرةً لحبٍ يسكن النفس و يملكها من أقطارها، فلا لذّة لعيشٍ تُرجى عنده دون عزّة، و لكنّها مقصيةٌ لا تسعف بوصلها الأيام.
ما أجلّ هذا الحبّ الراسخ الذي لا تغيّره صروف الدهر، و ما أروع ذاك الثبات العاطفيّ الذي لا تجده إلا عند ندرةٍ نادرةٍ من الناس!
فتعلّقه بعزّة لم يكن عارضًا فيزول، و لا الصبابة بها كانت غمرةً فتنجلي، بل هو شغفٌ قديمٌ قدمَ عهده بها لا يزول و لا يحول:
فلا يحسب الواشون أن صبابتي=بعزّة كانت غمرةً فتجلّتِ
فأصبحتُ قد أبللتُ من دنفٍ بها=كما أُدنفت هيماءُ ثمّ استبلّتِ
لقد أُوتي كثيّرخصيصتان قلّ اجتماعهما عند شاعر، فقد كان اقتداره و صدق عاطفته خير مطيّة يحمل عليها معانيه، فهو يستهلّ قصيدته - على عادة الشعراء قديمًا - باستيقاف خليليه و استبكائهما، و لكن الطريف غيرالتالد أن يعطف هذا برجائهما مسَّ التراب الذي قد مسّ جلد عزّة!
و لم يكن هذا يجزئ كثيّر، فلا الوقوف و لا البكاء و لا مسّ الثرى بكافٍ عنده، بل يلتمس من خليليه المبيت و المكث في الربع المقفر، و يطمعهما بغفران الذنب - إن هما أجاباه -، فالصلاة حيثما صلّت عزّة قد تكون سببًا لمحو الذنوب عند ربّ العباد!!
خليليّ هذا ربع عزّة فاعقلا=قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلّتِ
و مسّا ترابًا كان قد مسّ جلدها=و بيتا و ظلا حيث باتت و ظلّتِ
و لا تيأسا أن يمحو الله عنكما=ذنوبًا إذا صلّيتما حيث صلّتِ
و للحديث - إن أذن الله تعالى - بقيّة. . .
ـ[مائى]ــــــــ[15 - 01 - 2010, 06:51 ص]ـ
جزاك الله خيرا، الأستاذة بل الصدى ..
طرح طيب وشرح جيد ....
وموفقة بإذن الله تعالى
ـ[بل الصدى]ــــــــ[15 - 01 - 2010, 05:08 م]ـ
جزاك الله خيرا، الأستاذة بل الصدى ..
طرح طيب وشرح جيد ....
وموفقة بإذن الله تعالى
و جزاك يا أستاذ مائي
سرني مرورك العطر بارك الله فيك.
ـ[بل الصدى]ــــــــ[15 - 01 - 2010, 06:22 م]ـ
و لم يكتفِ كثيّر بخطاب الخليلين في مطلع قصيدته فحسب، بل نجده يستحضرهما في ثنايا القصيدة متأرجحًا بين اليأس و الرجاء، مصرحًا بالشكوى من بُعد نيل المأمول، طامعًا فيه مع توافر كلّ دواعي اليأس منه إذ يقول:
خليليَّ إن الحاجبية طلّحتْ=قلوصيكما و ناقتي قد أكلّتِ
فلا يبعدن وصلٌ لعزّة أصبحتْ=بعاقبةٍ أسبابه قد تولّتِ
و لن تكتمل صورة هذا المحبّ - و شكواه من بُعد إلفه و تمنّيه وصله و قربه -إلا بسماعه يصف حاله مع الشوق و لواعجه التي لا ترحم إذ يقول:
ولي زفراتٌ لو يدمن قتلنني=توالي التي تأتي المنى قد تولّتِ
و مع ذلك. . أعني مع مكابدة آلام الحب و الحنين و الشوق و البعد و الصدّ و اليأس و العجز يقول:
فما أنا بالداعي لعزّة بالردى=و لا شامتٍ إن نعل عزّة زلّتِ
لا أدري ما أقول أمام طوفان الحبِّ هذاالذي لن يقف على عمقه سابر؟
فلم تكُ عزّة عند كثيّر امرأةٌ علقها في ميعة الصبا فلمّا اشتد عوده و بلغ أشده أفاق من تلك الصبابة و شفي من ذاك الوجد، بل كانت قبلة الأماني و مهوى فؤاده المستهام، عزّة هي حبّ الصِّبا الذي "صادف قلبا خاليا فتمكنا"، و التي بذل لها القلب مخلصًا طائعًا، و كيف لا يفعل و قد أحلّ و أباح لها عرضه، و أنزلها منزلة من نفسه لم يصلها أحدٌ من الناس قبلها؟!
عميقٌ هو حبّ كثيّر و صادقٌ راسخٌ قويٌ، لم ينل منه البعد و الصد، و لم يقف أمامه شيء، لا صروف الأيام و لا ما يكلّفها به الغيران!
فحتى الموت لم يُوقف قلبه عن حبها و الوجد بها. .
تعلّقت عزًا و هي رؤدٌ شبابها=علاقة حبٍّ كاد بالقلب يرجحُ
أقول و نضوي واقفٌ عند رمسها=عليك سلام الله و العين تسفحُ
فهذا فراق الحق لا أن تُزِرني=بلادكِ فتلاءُ الذراعين صيدحُ
و قد كنتُ أبكي من فراقك حيّة=و أنت لـ. . . اليوم أنأى و أنزحُ
فيا عزَّ أنت البدر قد حال دونه=رجيع ترابٍ والصفيح المضرّح
ختامًا. .
لم أقف على أروع و أجمل من ذلك المشهد المعبّر الذي رصده كثيّر في آخر قصيدته موجزًا فيه القصة كلّها حيث يقول:
و إنّي و تَهيامي بعزّة بعدما= تخلّيت مما بيننا و تخلّتِ
لكالمرتجي ظلَّ الغمامة كلّما= تبوأ منها للمقيل. . اضمحلّتِ
كأنّي و إيّاها سحابة ممحلٍ= رجاها فلمّا جاوزته. . استهلّتِ
عسيرٌ على قلمي الجثو أمام هذه القمّة الشعرية السامقة، و يسيرٌ عليه الإقرار بالعجز أمامها.
فماذا أقول؟!، و كيف أدلّ على مواطن الروعة و الجمال في ثلاثة أبياتٍ تركّزت فيها العاطفة فأتت على قصّة حبّ العمر في أسطر؟!
كم يسحرني انتقاؤه الكلمات: التهيام - و الرجاء - و الاضمحلال - والمحل - و الاستهلال!!
إنه يهيم بعزّة فيجعلها سحابةً مملؤةً مطرًا و غيثًا، فتضمحلّ هي ليمحل هو، ثمّ تستهلّ بأرض غيره. . فكم في هذا من ألمٍ و التياع ٍ؟!
لا أدري بم أختم؟ لكنّ انتزاع نفسي من هذه الدوحة لم يكُ يسيرًا، و مغادرتي هذه الآفاق الرحبة محزنٌ مؤلمٌ، ولستُ أزعم إضافة جديد هاهنا، فهذا حديث نفسٍ عنَّ لي بثّه عن قصيدة لزمتها عمرًا، و حفظتها في سنٍ مبكرٍ، و عشت تفاصيها كاملة.
تمّ بحمد الله ..
¥