لا تعجبوا .. هذا أبي .. وهذه حنيته .. يحب أبناءه لدرجة أن ينسى ألمه أمامهم .. !
... ...
الممرضون .. يدخلون ويخرجون .. وفي وجوههم بعضٌ من القلق .. !
أنا لا أحب الغوص في الوساوس .. ولذلك فإنني أقول لنفسي كل لحظة: مجرد اطمئنان .. هذا شيء طبيعي .. وما أدراكِ أنت بعملهم .. !
كان ضغطه يرتفع فجأة .. وينخفض فجأة أخرى .. لكن أعلى ما وصل إليه أربع وثمانون .. وأقل ما عانى منه فوق الثلاثين .. !
ضربوه عدداً من الإبر .. وحين أتى طبيب التخدير ليضربه أول إبرة .. لم يجد عرقاً ليطعنه به .. !
فداه نفسي .. اختفت عروقه ..
استيقظ مرةً وكنت على رأسه أنا وعاصم .. نظر إلينا ثم قال: الساعة العاشرة والنصف؟ تأكد عاصم من الساعة , وقال: نعم .. وهو يقول لي: ما شاء الله أبي كما هو في دقته ..
قال لنا: لا تفتني الصلاة .. أريد أن أصلي ..
وحين أتى الطبيب إليه .. قال له: دكتور أريد الصلاة .. سأتوضأ .. رد عليه: لا تستطيع الوضوء يا عبدالله نحضر لك ترابًا وتتيمم .. قال: لا، بل أستطيع .. !
ثم .. فقد وعيه ..
هم الصلاة لم يفارقه أبداً .. حتى وهو في أضيق الظروف ..
فتح عينه مرةً .. والتفت عن يمينه فرأى أمي .. ثم عن يساره .. فرأى عاصماً .. فقال: أين البنات؟
أين ريم؟ أتت إليه ريم .. وهي الصغيرة لم تتحمل الموقف .. وكانت تقف ورائي في أغلب الوقت .. تقول: ما أبغى أشوف أبوي كذا .. !
وحين وقفت بجانبه .. ابتسم لها .. ومد يده إليها .. وقال: تعالي بجانبي .. رفضنا صعودها إليه خوفاً من أذيته .. ثم قال: وأين رند؟ جاءته وسلّم عليها .. وقال: أين رزان؟ ففعل معها الفعل ذاته .. ثم قال: أين جمانة؟ أتيت إليه .. فمد يده إلي .. صافحته .. وقبلتها .. وضغطت عليها قليلاً أريد تدفئتها من شدة برودتها ..
وحتى .. أملأ نفسي من حنانها .. !!
هل تريدون أن أخبركم .. بأن هذا هو الوداع الأخير .. مع حبيبي وقرة عيني .. وروحي التي بين أضلعي؟!
نعم .. هذا آخر ما بيننا .. وكأنه أوقفنا جميعاً حوله .. ليقول لنا: قفوا مع بعضكم دائماً .. أريد أن أرحل والعُرى بينكم غليظة .. !
إيهِ .. يا أبي ..
بعد هذا الموقف بقليل .. وحين رأينا أنه لا جدوى من جلوسنا .. لأن حركتنا أربكت طاقم التمريض .. !!!
استودعناه ربنا .. وخرجنا إلى بيتنا بعد ساعتين ونصف تقريباً من الإحاطة به ..
مشاعرنا لم أصفها لكم في هذا الليلة .. ولن أصفها .. لأني لا أستطيع .. لا أستطيع أبداً .. !
الحكاية تزداد تعقداً .. ولذا فإن عباراتي ربما تكون كذلك أيضاً .. سامحوني .. أنا أحكي عن أبي .. أتعلمون ما معنى أبي؟!! .. إذن التمسوا لي العذر إذا أذنتم ..
... ...
دخلنا البيت .. وهاتفنا عاصم .. نسأله عن الوالد .. أخبرنا بأن الوضع كما هو .. ويُرجى له التحسن ..
ذهب كلّ إلى فراشه .. وهو يحمل أطناناً من الهم ..
كنتُ متضايقة إلى حد الثمالة .. فأخرجت دفتري .. لأريح خاطري من بعض الألم ..
وما أن اضطجعت على فراشي .. في الساعة الواحدة والربع .. حتى رنّ هاتفي الجوال .. قلت: اللهم لا طارقاً يطرق إلا بخير .. رأيت الرقم فإذا هو عاصم .. رددت عليه .. وأنا في قمة الخوف ..
سألته عن والدي مباشرة , فقال: على وضعه .. لا تنسوه من دعواتكم .. !
أقفل الخط .. ليتصل مباشرة .. ويقول: جمانة أنت عندك أحد؟!!
قلت: لا ..
قال في تلكؤٍ بعض الشيء: أبي أخذوه للعناية ..
صُدمت: لماذا؟ هل حصل شيء؟
قال وهو يدافع البكاء: لا .. سيطمئنون فقط .. للرعاية الزائدة لا أكثر ولا أقل .. !
أرجوك ادعي له .. !
تخدر جسمي بأكمله .. ورجفت عظامي .. واعتراني برد شديد ..
الآن وأنا أكتب لكم ذلك أشعر بأن عظامي قد ذابت .. كيف بحالي حين تلقيت أصعب خبر في حياتي؟! أسأل الله الرحيم .. أن لا أسمع أصعب منه ..
قمتُ وأنا أطمئن نفسي كالعادة .. !
وبعد مضي عدد من الدقائق .. بدأت الوساوس تجتاحني .. فاتصلت بعاصم لأقول له: أسألك بالله هل في والدي شيء تخفيه؟!
قال: جمانة .. سأقول لك كل شيء .. وأنت بالذات لن أخفي عنك أي شيء .. !
قلت: هات .. واحتمل يا قلب .. !
ليُفاجأني: أبي عنده نزيف داخلي .. !!!
تابع ...
ـ[زهرة متفائلة]ــــــــ[26 - 07 - 2010, 12:33 م]ـ
¥