حين اقترب الظهر .. شعرتُ فيما بعد بأن أمي في هذا الوقت ودّعت والدي بقلبها .. وعلمَتْ بأن أجله قريب .. قريبٌ جداً ..
ارتفع أذان الظهر .. وارتفعت قلوبنا لخالقنا أكثر ..
صليتُ الظهر ..
ثم ..
أسندت رأسي قليلاً .. لعلي أحظى بغفوة كما طلبت مني أمي .. لأني لم أنم لمدة يوم ونصف ..
فكانت تدخل علي باستمرار .. وتقول: نامي قليلاً حتى تَدْعي بنشاط أكثر ..
استسلمتُ لغفوتي اليسيرة .. وثوب الصلاة لازال علي ..
وفي الساعة الواحدة والنصف تقريباً ..
طُرق باب غرفتي .. فتنبهتُ مباشرة .. وإذ بعاصمٍ يدخل باندفاع ..
عظامي الآن ترجف بشدة ..
لم أعد أستطيع الكتابة ..
موقف صعب .. يا إخوتي صعب .. الحمد لله على كل حال ..
أعود ..
دخل عاصم .. ومباشرة قال عبارة .. لم أستوعب معناها في حياتي كما استوعبتها تلك اللحظة ..
لطالما ذكرتها مراراً وتكراراً .. من غير وعي لما أقول ..
ولن يستوعب قارئ كلامي هذا إلا من مرّ بمثل مصيبتي أو أشد ..
قال لي:
أحسن الله عزاءكِ بالوالد ..
... ...
لم يتدرّج لي في نقل الخبر كما فعل مع أخواتي ..
وهو ما أشكره عليه ..
كأنه يقول لي: كما كانت طفولتنا رائعة معاً ..
سيكون شبابنا ممتعاً معاً ..
وقلوبنا متعاهدة على حمل المسؤولية معاً ..
... ...
إلى هذا الحد .. لا أستطيع الإكمال .. الرجفة خلعت كتفي ..
سأُكمل غداً ..
... ...
بالرغم من ضعف قوته التي وصل إليها في الساعات الأخيرة ..
وسَلْب الأمل الطبي في حياته ..
إلا أني تفاجأت؛ لأنّ الأمل كان يسبق الواقع .. !
غفر الله له ..
تقدم عاصم إلي وقال: استرجعي .. احمدي الله .. أمي تحتاج لمن يُصبرها ..
لا تتخاذلوا؛ لأجلها ..
قمنا جميعاً لها .. وحين دخلت غرفتها .. وجدتها جالسةً على طرف السرير ..
أول ما رأتني فتحت ذراعيها نحوي .. فانطلقتُ لأدفن نفسي .. في النصف المُزهر الذي بقي لنا .. !
لم أشأ فكّ ضمها الحاني ..
وقلبي يقول: اهدئي يا أمي .. والدي ذهب .. لكن روحك الطيبة بقيت .. يا الله لك الحمد كله ..
بكينا جميعاً .. ذكرتها بالحمد والاسترجاع .. وثواب المصيبة .. وكأني لست معنيةً بهذا أيضاً .. !!
كانت تقربني نحوها أكثر .. وتقول: لا تبتعدي .. ابقي بجواري .. !
ذهب عاصم يخبر باقي أخواتي ..
لا أعلم كيف استقبلن الخبر .. لكن دخلت علينا رزان وهي تبكي بصوت مرتفع .. ثم أتتنا رند وعليها عباءتها وقد انتهت للتوّ من صلاتها .. وبكاؤها كعادتها مكتوماً مُحرقاً ..
وريم بيننا ويبدو بأنها لم تستوعب الموقف جيداً .. دعتها أمي وقالت: ريم .. أبوك ذهب للجنة وسنلحقه بإذن الله .. هزت رأسها إيحاءً بفهمها .. ولا نعلم ما الذي يدور وسط عقلها الصغير .. !
ضمتهن أمي .. ونحن جميعاً في بكاءٍ مُوجع .. وشريط ذكرياتنا معه مرّ سريعاً .. كأنه يودعنا هو الآخر ..
!
بقينا بعضاً من الدقائق على هذه الحال ..
كلٌ يرى ألمه في عين الآخر .. !
حتى أمرتنا أمي بالصلاة .. وذكرتنا بقول الله تعالى) واستعينوا بالصبر والصلاة ( ..
قام كلٌ منا إلى غرفته .. ثم ..
علمتُ بأن جدتي وعماتي قد أتين ..
نزلتُ ودخلتُ عليهن .. أول ما رأتني جدتي: زادت في بكائها وهي تترحم عليه وعلينا ..
ضممتُها بقوةٍ .. وأنا أشم رائحة حبيبي بحضنها .. وأراه بعينيها ..
هي جدتي .. أم والدي .. ثُكلت بابنها وقرة عينها .. كما ثُكلت أمي بالحنون زوجها ..
وكما كُلِمنا نحن بالرحيم أبينا ..
ثم حضنتُ باقي عماتي .. وخالة والدي أسعده الله .. والجميع في تأثر بالغ .. !
نزلت أخواتي .. والمشهد نفسه تكرر ..
قمتُ إلى الصالة .. فقابلتني الخادمة .. ألقيتُ بنفسي عليها .. وأنا أبكي .. وهي تبكي أكثر .. وتقول: صبر صبر .. !
الحمد لله على كل حال ..
تابع ....
ـ[زهرة متفائلة]ــــــــ[26 - 07 - 2010, 12:50 م]ـ
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله ... أما بعد:
نهاية القصة " حكاية ألم "
ثم نزلت أمي وليست بأهون منا .. المشهد تكرر نفسه مرة أخرى .. وربما أشد ..
لحظاتٌ مُوجعة .. هذا فراقٌ للحبيب الغالي ..
رحمه الله رحمةً واسعة ..
لبسنا عباءاتنا نريد رؤية الغالي قبل أن يُدخل الثلاجة ..
وقبل خروجنا .. دخل علينا أعمامي: محمد وأحمد وعمر ..
¥