تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

تأثرهم كان بالغاً .. رحمه الله كان غاليًا على الجميع ..

سلموا علينا بحرارة مهدئة .. وقلوبنا تقطعت من البكاء ..

وخرجنا .. للمشفى ..

لنرى .. جثمان والدي فقط .. بلا روح .. !

لنقبله قُبل الوداع ..

لنُوقن بأن الموت حق .. والله حق .. جل وعز سبحانه ..

وصلتُ وأمي وعاصم وجدتي ورزان وخالتي نورة (شقيقة جدتي) ..

مشينا خطوات أشعر وكأنها دهراً ..

وصلنا قسم العناية المركزة ..

دخلناه ..

استقبلنا باقي أعمامي الذين لم نرهم في بيتنا ..

ثم ..

دخلنا على .. والدي .. حبيبي ..

وسأقف عند هذا الموقف وقفاتٍ طويلة ..

...

رأيناه مسجّى على السرير الأبيض ..

وجهاز القلب لم يُفصل عنه بعد ..

لأرى خلاف ما رأيته في المرة الأولى ..

تخطيط دقاتِ القلب .. يظهرها مستويةً مستقيمة، كما كانت حياته مستقيمة ..

وللجهاز رنينٍ متواصل .. ليُؤكد للجميع ..

بأن القلب الطاهر ..

قد فارق الحياة ..

وودّع النبض ..

انكببنا عليه جميعاً تقبيلاً .. وضماً ..

كنت أقول في نفسي وأنا أقبل وجهه المُشرق: لا يعلم بك الآن يا جمانة .. هو جسد بلا روح ..

انظري .. لم يبتسم لك كعادته حين تقبلين وجهه ورأسه ويده ..

قبّلي كما تشائين .. واحضُني كما تشائين .. لكن اعلمي أنه لا يعلم بهذا كله ..

لن يقول لك كعادته حين تقبلين يده:

الله يكرمك يا بنيتي ..

لن تسمعي منه دعاء وداعه الدائم:

الله يحفظك يا بنيتي ..

أدور حوله وأنا لا أكاد أصدق هول الموقف ..

أيُعقل أنني الآن بلا أب .. !!

هل هو ميّت الآن؟!!

لن يكون في عداد الأحياء؟!!

فقدت أبي .. كما فقد هو أباه .. !!

أبي أتسمع؟ .. أصبحت مثلك يا حبيبي بلا أب .. !

كنتَ دوماً تغبطنا وتقول: يا لهنائكم أبوكم بين أيديكم .. تتمتعون برؤيته ..

وتأنسون بجلسته ..

باب بره في الحياة لم يُقطع عنكم .. !

أما أنا .. فلا .. !

لم أنس يا والدي .. وقبل وداعك بأسبوعين بالتمام ..

حين كنتُ وإياك وريم في فناء بيتنا ..

نرتب أغراض سفرك ..

وكانت ريم تُنشد بين يديك .. وتتمايل حولك ..

وأنت تهز رأسك باهتمام لها ..

وابتسامتك أضاءت وجهك ..

كعادتك تُشجع كل شيء يصدر منا ..

وكلما أنهت أنشودتها طلبتَ منها إعادتها ..

أذكر أن بدايتها تقول:

(أقول لماما صباح الخير ..

أقول لبابا يا نور العين .. )

فقلتَ لها: أتحبين أباك بهذا القدر؟!!

قالت: إيه .. أحبك (قدّ) الدنيا ..

فرددتَ عليها: يا لسعدك عندك أبٌ تُنشدين له .. أنا ما عندي أبٌ أُنشد له .. !!

لم تكن تعلم يا أبي .. أنها ونحن جميعاً سنكون بعد أسبوعين مثلك بلا أب .. !

لم نكن نعلم أن القدر الذي أصابك وأنت في رُشدك .. سيُصيبنا ونحن في شبابنا وطفولتنا ..

لكن نحمد الله أن قلوبنا مليئة باليقين .. والحمد .. والرضا ..

فلله الحمد كله .. والثناء كله .. والأمر كله ..

وهو الرحيم الحكيم سبحانه ..

...

وسط هذه اللحظات كانت جدتي مفجوعة بفلذة كبدها ..

أراها .. تقبله .. وتشمه .. وبكل حنان تضمه ..

ولدها .. خرج منها .. أرضعته من حليبها ..

ربته وجدي المرحوم بجميل خلقهما ..

عاش ستةً وأربعين عامًا .. وستة أشهر .. بين أحضانها ..

وها هي الآن تلمسه بيدها .. اللمسة الأخيرة .. !

هكذا الحياة ..

...

وأمي تفعل الفعل ذاته ..

وتدور حوله .. في ضيق حيلة .. وذهول ..

أقصى شيء يستطيعه الواقف في هذا الموقف ..

إيهِ .. يا دنيا ..

... ...

كانت أمارات حسن الخاتمة ظاهرةً جليةً عليه .. رأسه مائلٌ لليمين .. مع أنهم كانوا قد أمالوه لليسار حين كانت الأجهزة عليه ..

لكن فور رفعها عنه .. مال لليمين .. !

وجهه مُضيء .. وجلده مُنشدّ ..

أسنانه ظاهره .. في ابتسامةٍ خفيفة ..

يده اليمنى رافعةٌ للسبابة ..

وعظامه لينة .. كأنه نائم .. وفي راحة تامة ..

ألا يحق لي الصبر؟!

بل والفخر؟!!

وأشد من ذلك الفرح؟!!

جمعنا الله به في جنان الفردوس الأعلى من الجنة ..

استبشرنا كثيراً لهذه الخاتمة الحسنة .. وهذا من أعظم ما يعزينا بفقده ..

... ...

عدنا أدراجنا .. لنتركه في المشفى ..

يُقلبونه بأيديهم .. ويُدخلونه ثلاجتهم .. بلا حول ولا قوة له .. !

شيعنا أعمامي .. عند خروجنا ..

ولا زلت أذكر قبضة يمين عمي يوسف على يدي اليسرى ..

وهو يصبرني .. ويذكُر خيراً كثيراً مُفرحاً عن والدي رحمه الله ..

ويبشرني بأن الأطباء أخبروه بأن والدي قبل أن ينام نومته الأخيرة ..

نطق الشهادة .. لك اللهم الحمد كله ..

وخالتي نورة .. عن يميني .. تقوم بدورها هي الأخرى ..

كأني بكم ترونه موقفاً بسيطاً لا يحتمل الذكر ..

لكنه في نفسي عظيم .. وكبير ..

لم أنسه .. أثّر فيّ كثيراً .. !

... ...

استقبلنا بعضاً من المعزين المُهدئين ذلك اليوم ..

وانتهى يومنا .. وأُغلق ..

ليُسجل لنا أول يوم في حياتنا نقضيه فاقدين أبانا .. مُصابين بأغلى روح عاشت بيننا ..

... ...

وفي صباح الغد .. يوم الجمعة الثالث من ربيع الثاني ..

ذهبتُ وأمي ورزان وعاصم إلى المغسلة ..

لنودع الحبيب .. الوداع الأخير ..

لنراه الرؤية الأخيرة ..

ولنعلن شوقنا إلى الاجتماع به في فردوسٍ أُعدت للصالحين ..

وكان بيدي مشلحه البني ..

الذي زُين به جثمانه ..

وسيُزينه الله عز وجل بأفضل منه في جنانه ..

بإذنه سبحانه ..

... ...

أحضروه لنا ..

على سريرٍ وقد لُفّ جسمه بغطاءٍ أبيض ..

الكفن الذي ينتظر كل مؤمنٍ في هذه الحياة ..

قبلنا وجهه الطاهر .. ورائحة العود والسدر تفوح منه ..

عظامه ما زالت ليّنه ..

وجرح بطنه كما يقول مغسلوه .. أنه لم يتوقف عن النزف حتى تكفينه ..

اللهم لك الحمد ..

بإذن الله نحسبه شهيداً ..

مات مبطوناً .. واستمر النزف .. وهذه بشرى عظيمة ..

أسأل الله تعالى أن يتقبله من الشهداء الصادقين ..

ويجمعنا به مع النبيين والصالحين ..

... ...

تابع ...

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير