- ولا تكتفي صفة (عربي) المشحونة بالمعاني بتقرير هذا المدلول الثلاثي الأبعاد (السهولة والبيان، والإعجاز والتحدي، والترابط والتلازم) بل إنها بالإضافة لتقريره تشير إلى أهميته بحكم نص القرآن عليه واهتمامه الشديد بإبرازه، وإلى أبديته باعتباره وصفاً كسائر أوصاف القرآن التي لا تتغير ولا تزول.
ومصداقاً لذلك فقد أثبت التاريخ الإسلامي أن كثيراً من الزيغ والانحراف والبدع للأفراد والجماعات الإسلامية كان من مصادره: الجهل بالعربية، والتلاعب بها، واستخدامها استخداما غير صحيح.
وهنا يتنزل الحكم الشرعي لحماية اللغة العربية والذود عنها فكل ما يحمي الشريعة من التشويه والنقص والتحريف هو واجب شرعي لا جدال في ذلك ولا مراء فيه. ومن هذا المنطلق كان كبار الصحابة وأئمة الأمة رضي الله عنهم – وهم الأدرى بمقاصد القرآن والأبعد عن التعصب والعنصرية – أول من سجل مواقف عملية واضحة وقوية في هذا السبيل نسوق منها بعض الأمثلة:
ثبت أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصدر تعميماً بان لا يعلم القرآن إلا عالم بالعربية يؤمن اللحن من جانبه وذلك بعد ما نقل إليه أن أعرابيا سمع قارئاً يقرأ سورة التوبة فقرأ: (إن الله برئ من المشركين ورسوله) بجر كلمة رسوله، فقال الأعرابي: (إن كان الله يبرأ من رسوله فأنا أبرأ من رسوله) فأخضع المعنى للإعراب تبعاً لطبيعة لغته، فمجرد لحن بسيط بتغير حركة من رفع إلى جر قلب المعنى رأساً على عقب، وكاد يخرج به هذا الأعرابي المسكين من الإسلام ببراءته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لولا أنه علَّق؛ لأن العقل يأبى أن يبرأ الله من رسوله.
- ومن الثابت الذي لا شك فيه أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – هو المؤسس الأول والواضع للخطوط العريضة لعلم النحو إثر قصة قريبة من القصة السابقة لإحساسه أن بوادر الإخلال بقواعد اللغة وضوابطها قد بدأت في الظهور، فوضع أبو الأسود الدؤلي مبادئ علم النحو بمشورة من علي رضي الله عنه.
وعن عروة بن الزبير أنه قال لعائشة رضي الله عنها: أرأيتِ قول الله: (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليها أن يطوف بهما) فما أرى على أحد جناحاً أن لا يطوف بهما، قالت عائشة: (بئس ما قلت يا ابن أختي إنها لو كانت على ما أولتها لكانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما) فقد كاد عروة أن يسقط شعيرة من أعظم شعائر الله بفهم غير دقيق للأسلوب العربي فصححت له أم المؤمنين رضي الله عنها ببراعتها اللغوية ورسوخها الفقهي خطأه، فقبل وسلَّم.
أما مواقف الأئمة: فقد اشترط علماء الأصول في باب الاجتهاد أن يكون المجتهد عالماً بمباني ومعاني اللغة العربية وإلا كان اجتهاده تخبطاً واجتراء على دين الله عز وجل وكفى بذلك إثماً عظيماً.
ومن أبلغ ما ينبغي أن يساق في هذا السياق موقف الإمام الشافعي رحمه الله فقد انقطع زمانا في البادية في قبيلة هذيل البدوية المعروفة بالفصاحة ليتعلم العربية صحيحة صافية لإدراكه أن من يتصدر للإمامة في الدين لا يمكنه ذلك دون أن يستوعب اللغة الفصحى التي لم تشبها شائبة.
وقد فضل بعض العلماء الشناقطة تعلم العربية على التفرغ لعبادة الله عز وجل، وجعل بعضهم حفظها والمحافظة عليها فرضاً كالصلاة لأن بقاء الدين مرهون ببقاء اللغة فقال الأول:
تعلم اللغة شرعا فضل
على التخلي لعبادة العلي
وقال الثاني:
حفظ اللغات علينا فرض كحفظ الصلاة
فليس يحفظ دين إلا بحفظ اللغات
وقد يجادل عنصر مشاغب هنا بأن إضفاء صبغة شرعية على حماية اللغة العربية إنما هو دعاية قومية وعنصرية ثقافية يوظف فيها العرب الدين لحماية لغتهم المتخلفة وثقافتهم العاجزة عن مسايرة التطور والحداثة!
ويكفي للرد على مثل هذه الدعاية الساقطة أن نُذكِّر بأن أبرز الذين خدموا العربية وأبلوا في ذلك البلاء الحسن كانوا من غير العرب فسيبويه والكسائي والحسن البصري كانوا من أصول عجمية ولكنهم كانوا يفكرون بعقول مدنية بعيداً عن الشعوبية والتعصب العنصري المقيت، وولاؤهم الأول كان للإسلام الذي ساوى بين العربي والعجمي والأبيض والأسود وجعل التقوى معيار الفضل والكرامة: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
من كتيب لغتنا في خطر .. جمعية حماية اللغة العربية بالشارقة