جيلُ الركاكة
ـ[ناصر الكاتب]ــــــــ[04 - 03 - 2005, 03:23 م]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
تتكونُ لغةُ الإنسان من محاكاته للغة قومِه، وكلما كثرت المسميات وتنوعتْ التعبيرات؛ كان ذلك أدعى لبراعتِه في تلك اللغة، وإذا سلِم من الدخيلِ الصارفِ عن إتقان البناء كان ذلك أبرأ للسانه من التخليط والركاكة.
وإني أجدُ –كما يجد غيري- في لغةِ آبائنا وأجدادنا والجيل الذي سبقنا بنصف قرن –تقريبا-، أو في لغة البدو، أو الفلاحين، من قوة التعبير وبلاغة الأسلوب ما لا أجده في لغة جيلنا الحاضر.
ولستُ فقيها في اللغات، فأجزم على ما سأذكره من أسباب لذلك؛ ولا بأس أن أُطلِع صحبي على بعض ما مرّ بي من أمر ذلك. فالركاكة سمة غالبة علينا معشر هذا الجيل. وهي عيبٌ بلا شك، وغفلة المرءِ عن عيبِ نفسِه مما يشينه ويزري بنفسه.
إنّ من أهم أسباب تلك الركاكة: عزلةُ الشابِ عن مجالس الكبار، أو قلة الاختلاط بأهل التجارب. تأمل معي المثال الآتي –وهو حوار بلهجة أهل القصيم الدارجة-:
سأل أب ابنه «ما تم الأمر الفلاني؟»
فأجاب الابن –وهو يريد إثبات النفي-: «إيه»
ففهم الأبُ مرادَ ابنِه، وعاتبه على خطأه وقال: «قل: (لا)».
الشرح: يكون جوابُ ذلك السؤالِ في لهجة أهل القصيم هكذا:
- (لا) إن أردتَ النفي.
- و (إلا) إن أردتَ نفيَّ النفي، وهي بمعنى (بلى) في الفصحى.
- وليس للفظ (إيه= ايوة) موضِعٌ هنا، ولا يستخدمها إلا «جيلُ الركاكة».
اعلم أن ذلك الابن شابٌّ بالغ، ومع ذلك فلم تكن السنوات التي تجاوزت عقدا ونصف العقد كافيةً لتمكن لسانه من لغة قومِه، ولعلّ عزلتَه عن مجالسِ الكبار وأرباب العقول هي من أبرز أسباب تأخره عن إتقان الكلام.
ثم إن لمخالطة أهل الركاكة –وخاصة إن كان ذلك قبل التمكن من حسن التعبير- أثرٌ بيّن في انحرافِ اللسان.
ومعلوم ما في كلام السوقة من قبيح اللفظ، وساقط المعنى؛ ولا يكاد يسلم المخالِطُ لهم من دخول الفساد على تفكيره وتعبيره.
قال الجاحظ: «ولو جالستَ الجُهّالَ والنوكى، والسخفاء والحمقى، شهراً فقط، لم تَنْقَ من أضارِ كلامهم، وخبال معانيهم، بمجالسة أهل البيان والعقل دهراً؛ لأنَّ الفساد أسرعُ إلى الناس، وأشدّ التحاماً بالطبائع» اهـ. [الجاحظ: البيان والتبيين: 1/ 86].
فإن اعتاد الناشئ على مجالس أهل العقل والتجربة؛ كان ذلك أدعى إلى رسوخه في حسن المنطق ومعرفة مواضع الأقوال من الأحوال.
ولكل صنفٍ من الناس لسان يختلفُ –عند التدقيق- عن غيره من الألسنة. قال الدكتور علي عبد الواحد وافي: «ويزداد في العادة انحراف اللهجة الاجتماعية عن أخواتها كلما كثرت الفوارق بين الطبقة الناطقة بها وبقية الطبقات، أو كانت حياة أهلها قائمة على مبدأ العزلة عن المجتمع أو على أساس نظمه وقوانينه. ولذلك كانت في فرنسا لهجات الطبقات الدنيا من العمال، واللهجات السرية لجماعات المتصوفين والرهبان، ولهجات المجرمين واللصوص ومن إليهم، من أكثر اللهجات انحرافا عن الأصل الذي انشعبت منه، وبعداً عن المستوى العام لبقية اللهجات الاجتماعية الفرنسية» اهـ. [د. وافي: اللغة والمجتمع: 180].
ولا أستبعد أن ألحظ ما ذكره الدكتور وافي حين أنظرُ في لغة شباب «السوني» أو «الأفلام الأجنبية»!.
وليس هذا ما أريد البحث فيه؛ بل أحاول –هنا- أن أفهمَ أسباب قصور لسان جيلنا –معشر الشباب- عن جيل آبائنا أو أقراننا من أهل الأرياف وبعض الحِرَف.
فتعبيراتنا قاصرة سواء كانت بلهجتنا القومية، أم باللغة الأم (الفصحى)!
ففي البرامج التي تجرى فيها مقابلات مع المصطافيين في بعض مدن المملكة، نجد المذيعَ يسأل: «ما شعورك ... ؟» فيكون الجواب: «كشعور أي مواطن» وهذه عبارة مستهلكة؛ بل هي تحصيل حاصل!
ثم يلقي المذيعُ سؤالاً آخر فتلبس كل كلمةٍ من كلمات المجيب كلمةَ «يعني»! «يعني ... يعني ... ».
¥