تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

5 - إن أهمَّ وظائف الكلمة هي الإبانة والتوضيح بل هي مهمة اللغة إجمالاً. وما رأيناه من المنحوتات أو معظمها يُلْغي هذه الوظيفة الدلالية الميسورة للكلمة. وإن وضوحَ الدلالة في بعض المنحوتات ليس مردُّه إلى وضوح المنحوت بل إلى أحد أمرين:

آ- إمَّا أُُلفةُ بعض المركبات أو العبارات المنحوتة منها وتكرارُها على الألسنة، ممَّا يجعل ذكرَ جزءٍ منها يستدعي معناها، وذلك كالنحيتات: بَسْمل وحَوْلَق وعَبْقَسي.

ب- وإما قلَّةُ الحروف المحذوفة من المنحوتات كما في قولنا (كهرَطيسي)، وكلَّما قلَّ الحذف كان المنحوت أوضحَ دلالةً. ولعلَّ هذا علةُ قبول بعض المنحوتات الظرفية كقول الحصري (قبتاريخ) ([64]) نحتاً من (قبل التاريخ) و (غِبُّلوغ) نحتاً من (غِبّ البلوغ)، فلم يُحذف من هذين التركيبَينْ الإضافيين إلا حرفٌ واحد هو اللام من (قبل) والباء من (غب).

6 - قلنا إنه كلَّما قل الحذف من جزأَيْ التركيب المنحوت منه كان معنى المنحوت أوضح، وانعدامُ الحذف يوصلنا إلى التركيب المزجي الذي هو أوضح دلالةً من النحت، فالنَّفْسَجِسْمي أوضح من النَّفْسَجي. نحن لا نقول بالتركيب المزجي خاصيَّةً من خصائص لغتنا، لكنه نوعٌ من التراكيب العربية المعبرة، وإن كانت أهميته ضئيلةً جداً في لغتنا العربية بالقياس إلى التركيبَيْن الوصفي والإضافي، ذلك لأن ما ورد منه لم يتجاوز أسماء أعلامٍ كحضرموت وبعلبك، فهو يمثل مَتَارِك مرحلةٍ لغوية قديمة على الأرجح. لكنه على ما فيه، فهو أسلم مَرْكباً عند الضرورة من النحت.

7 - إذا كان مسوغُ النحت عند القائلين به هو قابليةَ المنحوت للاشتقاق والتصريف، فان هذا الاشتقاق لن يمُرَّ دون إشكالات، فلو أرَدْنا أن نشتق من (ماغول) فِعْلاً لوجب أن نقول (مَغْولَ)، فماذا بقي من هذه الكلمة مِمَّا ينم عن أصلها؟ ثمَّ ألا يفرز هذا الاشتقاق كلمةً مُلْبِسةً مشتركة مع الفعل الممكن اشتقاقه من اسم العلم (المُغُول). نحن لا نُنكر وجودَ المشترك اللفظي كما قدَّمنا، لكننا نكرر أنه إذا كان بمكنتنا تجنُّبُه فإننا خيراً نفعل. ثم هَبْنا أرَدْنا الاشتقاق والتصريف من النحيتة (نَقْصَوَة) بمعنى نقل الأصوات عند ناحِتها، فهل نقول (نقَصَ) أم (نَقْصَى)؟ وهل في العربية أندرُ من هذا البناء، أو مثل هذا البعد بين لفظ الفعل وما أُريدَ له.؟ ولو أردنا أن نشتق من النحيتة (المُتبَرْجِعين) ([65]) فعلاً، أو نْعيدها إلى أصلها فهل نقول (تَبَرْجَع)؟ ومَن مِنّا يمكن أن يقدر أن معنى هذا الفعل هو: سَلَك مَسْلَك سُكَّان البروج العاجيَّة؟

8 - أمَّا ما شرطَه بعضُ الباحثين الوسطيِّين من وجوب تحكيم الذوق اللغوي في المنحوتات، فما ندري من يملك المقدرة على تقييس الأذواق وتمييز ما تقبله الأذن العربية ممَّا تنفر منه. إن بعضاً من كبار لغويِّي العصر لم تَنَلْ منحوتاتُهم حظاً أكثرَ من الرفوف.

مُجْمَل ما خَلَصْنا إليه أن النحتَ أداةُ اختصارٍ واختزالٍ لا أداةُ توليد لغوي، وإذا حَمَلتْنا الضرورةُ على ركوبه فما أوعرَه من مركب! يؤيد موقفَنا هذا أن المصطلحات المنحوتة في ثلاثة معجمات صادرة عن مكتب تنسيق التعريب هي معجم الفيزياء ومعجم النفط ومعجم الطب لا تضم إلا (13) ثلاثة عشر مصطلحاً منحوتاً من مجموع (11232) أحد عشر ألفاً ومئتين واثنين وثلاثين مصطلحاً، بنسبة لا تكاد تُذكر، تقرب من الواحد بالألف ([66]). وليس إنكارُنا للنحت سببُه أن ما ورد من منحوتاتٍ عربية لا يتجاوز الستين كلمةً، وصلت عند بعضهم إلى مئة وثلاث، وأن هذا العدد ليس من الكثرة بحيث يُقاس عليه، إذ إننا لا ننكر أبداً القياسَ على القليل في وضع المصطلحات، بل نحن مع ذلك كما قدمنا؛ ولكن سببَه أن أهم خصائص اللغات هي الإبانةُ والتوضيح، ولاسيما اللغة العلمية، وأيُّ مسلكٍ لغوي يتعارض مع الإفصاح والوضوح فهو حريٌّ بالتخلي عنه.


([1]) ابن فارس/ مقاييس اللغة 1: 328 - 329 - وينظر: الخليل- العين: 60 - 61.

([2]) السيوطي/ المزهر 1: 482.

([3]) عبد الله أمين/ الاشتقاق: 391. وينظر: تقرير لجنة النحت في مجمع القاهرة/ مجلة مجمع القاهرة ج7: 51.

([4]) د. رمسيس جرجس/ النحت في العربية/ مجلة مجمع القاهرة 13: 65 نقلاً عن ابن جني.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير