تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالفرق بين صاحب الملكة العملية في النطق والكتابة، وصاحب التأصيل النظري بمعزل عن مباشرة كلام العرب كالفرق بين النبي والفيلسوف في بيان الشرع، إذ النبي لديه ملكة وصف العلاج المناسب بأخصر عبارة وأوفى بيان، بخلاف الفيلسوف الذي يكثر الكلام في وصف العلة وتجريد أعراضها وأوصافها والبحث عن حقيقتها المجردة ............. إلخ، ثم لا يحسن وصف الدواء المناسب لها!.

وعليه يمكن اعتبار منهج البحث عند سيبويه، رحمه الله، منهجا وصفيا، فهو، كما تقدم، جمع كلام العرب، وذلك وصف للواقع اللغوي لأهل البادية أصحاب اللسان الأفصح في زمانه، فلم يهتم سيبويه بالمكتوب، بل إن المكتوب آنذاك في البادية التي يغلب عليها قلة وسائل الكتابة: نادر أو معدوم، وهو وصف لنمط لغوي بعينه هو الفصحى السالمة من لحن الحضر، ولنمط بيئة بعينها هي البيئة البدوية، ولفترة زمنية محددة، ولم تعن المدرسة الكوفية بالمعايير قدر عنايتها باستقراء كلام من يحتج بكلامه، ولو خالف بعض القواعد، فيخرج الوجه النادر ولا يرد لداعي اللحن، فهي طريقة تشبه طريقة الأحناف، رحمهم الله، في التصنيف في علم الأصول إذ نظروا في فروع المذهب واستنبطوا منها الأصول فجاءت أصولهم أصولا حنفية أكثر منها أصولا عامة.

فيمكن القول بأن سيبويه، رحمه الله، قد وضع أصول لغة أهل البادية، فيكون نحوه: نحو أفصح لهجات اللسان العربي: لهجة أهل البادية، فهي حاكمة بداهة على ما دونها من اللهجات الحضرية وذلك جار على سنة العرب في طلب فصاحة الألسن في مضارب البادية، وهو ما نال منه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قسطا عظيما جعله أفصح العرب لسانا فضلا عما اختصه الرب، جل وعلا، به من الملكات اللسانية لمكان النبوة، فعلم من ألسنة العرب ما لم يعلم غيره فمقام البلاغ: مقام عام، يحسن فيه مخاطبة كل قوم بلسانهم ليحصل لهم البيان الوافي فضلا عما يقع بين المتكلم بلغة قوم وبينهم من الألفة، وذلك أدعى إلى قبول دعوته، فللمسألة بعد نفسي عميق يدل على كمال حكمته صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

وهذا أمر مشاهد في العصر الحاضر، فإن مما يتألف به الساسة الأقليات اللسانية أو العرقية في بلادهم التكلم بلسانهم ولو على سبيل المجاملة والتزيي بزيهم، مع الفارق في المراد في كلا الحالين فإن تأليف الأنبياء للقلوب فرع عن منصب النبوة، وتأليف الساسة للقلوب فرع عن منصب الرياسة، فبينهما من البون ما بين أصليهما: النبوة التي تساس بها القلوب طوعا، والرياسة التي تساس بها الأبدان جبرا.

بينما غلب على النحاة المتأخرين ممن أفرطوا في استعمال الحدود المنطقية في بيان الحقائق النحوية، غلب عليهم: المنهج المعياري، وهو منهج يعتمد على تأصيل قواعد صارمة يضبط بها النحو، فنظرهم جار مجرى المناطقة الذين يعنون بتقرير المثل الكلية في شتى مجالات المعرفة إنسانية كانت أو طبيعية، وهو أمر ظهر أثره في المدرسة البصرية التي اهتمت بالتأصيل أكثر من اهتمامها بالتمثيل فهي على خلاف المدرسة الكوفية، فالغالب على الكوفيين: الاستقراء، والغالب على البصريين: الاستنباط، وهو، أيضا، يشبه إلى حد كبير طريقة الشافعية أو المتكلمين في التصنيف في أصول الفقه إذ غلب عليهم لتأثرهم بالمنطق الأرسطي: الجانب النظري فعنوا بتأصيل القواعد ثم نظروا في الفروع طلبا للشواهد، بخلاف الأحناف، رحمهم الله، فإنهم نظروا في الشواهد أولا ليتوصلوا منها إلى القواعد.

وبعض النحاة لا سيما المتأخرين من أمثال ابن هشام، رحمه الله، قد جمع كلا الوصفين، فمنهجه معياري من جهة عنايته بتحرير المصطلحات كما يظهر في "شرح قطر الندى" على سبيل المثال في مواضع من قبيل: تعريف الكلام، وتعريف النكرة، وتعريف العلم، وتعريف الفاعل ........... إلخ. ومنهجه وصفي من جهة كثرة استشهاده بكلام من يحتج بهم من أهل اللسان العربي فقلما يورد نظما لمن لا يحتج بكلامه، فيورده تمثيلا لا احتجاجا.

وهو يشبه، أيضا، طريقة ثالثة في التصنيف في أصول الفقه وهي الطريقة التي مزجت بين طريقة الأحناف التمثيلية وطريقة الشافعية التأصيلية، وكأن منهج البحث والنظر في كلا العلمين واحد مع اختلاف المادة العلمية محل البحث.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير