ونفس الأمر تقريبا يوجد في طرائق المصنفين في علم البلاغة، وقد أشار إلى ذلك بعض الأساتذة الأكاديميين من المعاصرين باختياره ثلاثة مصنفات تمثل أدوار التأليف الثلاثة التي مر بها علم البلاغة:
فالدور الأول يمثله كتاب "البيان والتبيين" للجاحظ وهو جار على طريقة المتقدمين في الاهتمام بجمع المادة العلمية دون تصنيفها تصنيفا اصطلاحيا دقيقا كذلك الذي غلب على المتأخرين، فضلا عن استعماله المصطلحات ذات الدلالة العرفية الخاصة في أدوار لاحقة في غير ما استقر عرف البلاغيين عليه بعد ذلك، فالمتقدمون ذكروا كثيرا من المصطلحات المتأخرة، ولكنهم لم يريدوا بها ما أراده المتأخرون وإن شابهوهم من وجه، فلغة المتقدمين أقرب إلى عصر الرسالة فلها عرف غير عرف لغة المتأخرين الذي غلب عليه الجانب الاصطلاحي المتأثر بطرائق المناطقة في حد المصطلحات بحدود جامعة مانعة، والمثال الشهير في هذا الشأن، وهو مدلول كلمة: "المكروه" عند الشافعي، رحمه الله، وهو من المتقدمين الذين كان لسانهم سالما من الأثر المنطقي المتأخر، خير شاهد على ذلك، فقد وقع الغلط في فهم بعض أقوال الإمام، رحمه الله، لما حمل المتأخرون لفظ "المكروه" في كلامه، على مدلوله الاصطلاحي المتأخر: ما وعد فاعله بالثواب ولم يتوعد فاعله بالعقاب، مع أنه أطلقه في مواضع أراد فيها التحريم، إذ كان عرف لسانه قرآنيا على حد قوله تعالى: (كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا)، وذلك عائد على جملة من المحرمات بل الكبائر فلا يتصور بداهة أن المراد في هذا السياق هو المكروه الاصطلاحي الذي لا حرج، في الجملة، على فاعله!.
وذلك يندرج في باب الدراسات التاريخية لألفاظ اللغة الذي يهتم بدراسة التغيرات الدلالية والنحوية والصرفية والصوتية التي طرأت على الكلمة، كمن يدرس تاريخ مادة: "فقه" على سبيل المثال من لدن كانت حقيقة لغوية في مطلق الفهم أو الفهم الدقيق إلى أن صارت حقيقة شرعية يعم مدلولها الأصول العلمية والفروع العملية، ثم: حقيقة اصطلاحية خاصة عند الأصوليين وهي: العلم بالأحكام الشرعية العملية المستنبطة من أدلتها الجزئية، ثم: حقيقة اصطلاحية أخص عند المتأخرين من مقلدة المذاهب الذين قصروا الفقه على: حفظ الفروع مطلقا ولو كانت مجردة بلا أدلة نصية.
ومثله دراسة مادة: "بين" من البيان: فإن البيان يطلق في اللغة على ما يحصل به الكشف والبيان أيا كان المبيَّن والمبيِّن: قولا أو فعلا أو إشارة أو كتابا أو سكوتا في موضع البيان فهو: بيان يستفاد منه مطلق الإذن بالفعل إذا انتفت أمارات الإكراه، أو وقع بأكثر من نوع، كحقيقة الصلاة الشرعية التي بينها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالقول والفعل معا.
ثم صار اللفظ دالا على البيان اللغوي خاصة بعد أن كان مطلقا في جميع العلوم والصنائع، فذلك تقييد أول لمطلق المعنى المعجمي.
ثم ورد قيد آخر جعله خاصا بفرع من فروع البلاغة اللغوية وهو الذي يختص بدراسة صور أداء المعاني من: التشبيه والكناية والمجاز .............. إلخ.
فيمكن جعل هذا الدور بإزاء دور الأصوليين من الأحناف، رحمهم الله، ودور النحاة الأوائل فكلهم يشترك في غزارة مادته العلمية بلاغية كانت أو فقهية أو نحوية.
والدور الثاني: يمثله كتاب: "دلائل الإعجاز" لعبد القاهر الجرجاني، رحمه الله، وقد جمع فيه بين التأصيل والتطبيق فهو مرحلة ازدهار بين نشأة غلب عليها الجمع، واستقرار وجمود غلب عليه التقعيد المتأثر بطرائق المناطقة في صناعة الحدود فهذا الدور يمكن جعله بإزاء طريقة الأصوليين الذين جمعوا بين طريقة الشافعية في التأصيل وطريقة الأحناف في التقعيد، وطريقة المحققين من متأخري النحاة كابن هشام، رحمه الله، الذي مزج بين القواعد والشواهد من كلام العرب المحتج بلسانهم.
والدور الثالث: يمثله كتاب: "مفتاح العلوم" للسكاكي، رحمه الله، وقد غلب عليه ما غلب على مصنفات المتأخرين من المبالغة في استعمال الحدود، وصياغة المادة العلمية في قواعد مقننة دون نظر إلى تطبيقاتها في اللسان العربي إلا على حد التمثيل لقواعد قد حددت سلفا فطريقته تشبه إلى حد كبير طريقة المتأخرين من النحاة وطريقة المتكلمين والمعتزلة الذين صنفوا في الأصول، فاهتموا بالتأصيل على حساب التمثيل.
وكأن مناهج البحث، كما تقدم، واحدة، مع اختلاف المادة العلمية محل البحث.
والله أعلى وأعلم.
ـ[عبد الله إسماعيل]ــــــــ[01 - 01 - 2010, 10:32 ص]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الأنبياء والمرسلين
شكرا على الجهود الطيبة ............