لما ذكر ابن أبي رحمه الله أن من أسماء الله العلي , وقد ذكره قريباً مقترناً باسم العظيم , وبسام الكبير , بين في هذا أن علو الله عز وجل وفوقيته على عرشه أنه علو بالذات , كما أنه علي بالقدر وعلي بالقهر. وإنما نص على علوه على عرشه بذاته لما وُجد من يقول (إن علو الله علو قدر وعلو قهر , وأول علوه على عرشه باستيلائه عليه , وأنه ليس على العرش حقيقة بذاته) فعبر بعلو الذات ردا على من قال (إنه علو مجازي وليس بحقيقي) وهذا نظير قول السلف عن القرآن إنه غير مخلوقٍ لما وُجد من يقول (إنه مخلوق).
وأما قوله (وهو في كلِّ مَكان بعِلمه) فهو لنفي القول بالحلول والاتحاد , وهو أن الله حال في المخلوقات , متحد معها , مختلطٌ بها , فإن الله عز وجل الخالق , وكل ما سواه مخلوقٌ , والمخلوقات كلها كانت عدماً فأوجدها الله , ووجودها مباينٌ لوجودِ الله , وهو سبحانه وتعالى بائنٌ من خلقه , ليست المخلوقات حالة في الله , ولا الخالق حالا في المخلوقات.
ومعية الله فُسرت بأنها معيةٌ بالعلم , كما قال ابن أبي زيد القيرواني هنا , قال الله عز وجل (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فقد بُدئت هذه الآية بالعلم , وخُتمت بالعلم.
وفُسرت بأنها معية حقيقة , والمعنى أن الله فوق عرشه بذاته , وهو مع خلقه دون امتزاج أو اختلاط , فإن المخلوقات صغيرةٌ حقيرةٌ أما عظمة الله وكبريائه , والله عز وجل مع كونه فوق عرشه , فهو قريبٌ من عباده , قال شيخ الإٍسلام ابن تيمية في الواسطية (وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله الإيمانُ بما أخبر الله به في كتابه وتواتر عن رسوله صلى الله عليه وسلم وأجمع عليه سلف الأمة , من أنه سبحانه فوق سماواته على عرشه , عليٌّ على خلقه , وهو سبحانه معهم أينما كانوا , يعلم ما هم عاملون , كما جمع بين ذلك في قوله " هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" , وليس معنى قوله " وَهُوَ مَعَكُمْ " أنه مختلطٌ بالخلق , فإن هذا لا توجبه اللغة , وهو خلاف ما أجمع عليه سلفُ الأمة , وخلاف ما فَطَرَ الله عليه الخلق , بل القمر آيةٌ من آيات الله , من أصغر المخلوقات , وهو موضوعٌ في السماء , وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان , وهو سبحانه فوق العرش , رقيبٌ على خلقه , مُهيمنٌ عليهم , مطلعٌ إليهم , إلى غير ذلك من معاني ربوبيته , وكل هذا الكلام الذي ذكره الله سبحانه – من أنه فوق العرش وأنه معنا – حقٌّ على حقيقته , لا يحتاج إلى تحريف , لكت يُصانُ عن الظنون الكاذبة , مثل أن يُظن أن ظاهر قوله (في السماء) أن السماء تُقله أو تُظله. وهذا باطلٌ بإجماع أهل العلم والإيمان , فإن الله قد وسع كرسيه السماوات والأرض , وهو الذي يُمسك السماوات والأرض أن تزولا " وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ " , " وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِه ").
إلى أن قال (وما ذُكر في الكتاب والسنة من قُربه ومعيته لا يُنافي ما ذُكر من علوه وفوقيته , فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته , وهو عليٌّ في دُنوه , قريبٌ في علوه).
ويشير شيخ الإسلام رحمه بالجملة الأخيرة وهي قوله (علي في دنوه , قريب في علوه) إلى ما جاء في حديث نزول الرب إلى السماء الدنيا حين يبقى الثلث الآخر من الليل , وحديث عائشة رضي الله عنها في صحيح مسلم 1348 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ما من يوم أكثر من أن يُعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة , وإنه ليدنو , ثم يُباهي بهم الملائكة , فيقول: ما أراد هؤلاء؟).
¥