قال الشيخ بكر أبو زيد: "في الذكر الجماعي، قاعدة هذه الهيئة التي يُردُّ إليها حكمها هي: أن الذكر الجماعي بصوت واحدٍ سرًا، أو جهرًا، لترديد ذكر معين وارد، أو غير وارد، سواءً كان من الكل، أو يتلقونه من أحدهم، مع رفع الأيدي، أو بلا رفع لها، كل هذا وصف يحتاج إلى أصل شرعي يدل عليه من الكتاب والسنة، لأنه داخل في عبادة، والعبادات مبناها على التوقيف والاتباع لا على الإحداث والاختراع؛ ولهذا نظرنا في الأدلة في الكتاب والسنة فلم نجد دليلاً يدلُّ على هذه الهيئة المضافة، فتحقق أنه لا أصل له في الشرع المطهر، وما لا أصل له في الشرع فهو بدعة؛ إذاً فيكون الذكر والدعاء الجماعي بدعة، يجب على كل مسلم مقتدٍ برسول الله (صلى الله عليه وسلم) تركها والحذر منها، وأن يلتزم بالمشروع.
وعليه: فالدعاء الجماعي بصوت واحدٍ، سواءً كان دعاءً مطلقًا، أو مرتبًا كأن يكون بعد قراءة القرآن، أو الموعظة، والدرس ... كل ذلك بدعة". اهـ. تصحيح الدعاء (ص134).
ومما يدخل في بابنا هذا من صنيع الصحابة: مجلس واحد للأنصار، وهي أول جمعة قبل مقدم النبي (صلى الله عليه وسلم) صلى بهم أسعد بن زرارة، وجلسوا يتذاكرون ما من الله عليهم به من الإسلام، وصلى بهم ركعتين وذبحت لهم شاة فكفتهم. وهذا من بلاغات ابن سيرين. خرجه عبدالرزاق برقم (5144). وهو مرسل صحيح، وله شواهد. انظر الفتح (2: 355).
قال الإمام أحمد: وأي شيءٍ أحسن من أن يجتمع الناس فيصلوا ويذكروا ما أنعم الله عليهم كما قالت الأنصار. رواه الخلال.
ومجلس آخر حضره عمر وهو ما رواه ابن سعد في طبقاته (3: 294) عن أبي سعد مولى أبي أسيد، قال: كان عمر بن الخطاب يعس المسجد بعد العشاء فلا يرى فيه أحدًا إلا أخرجه، إلا رجلا قائمًا يصلي، فمر بنفر من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيهم أبي بن كعب، فقال: من هؤلاء؟ قال أبي: نفر من أهلك يا أمير المؤمنين، قال: ما خلفكم بعد الصلاة؟ قال: جلسنا نذكر الله، قال: فجلس معهم، ثم قال لأدناهم إليه: خذ، قال: فدعا فاستقراهم رجلاً رجلاً يدعون، حتى انتهى إلي وأنا إلى جنبه، فقال: هات فحُصرت وأخذني من الرعدة أفكل، حتى جعل يجد مس ذلك مني، فقال: ولو أن تقول: اللهم اغفر لنا .. اللهم ارحمنا، قال: ثم أخذ عمر فما كان في القوم أكثر دمعة ولا أشد بكاء منه، ثم قال: إيهًا الآن فتفرقوا.
فأخذنا من هذين النصين جواز الاجتماع على الذكر والدعاء، ومن أثر عمر أخذنا جواز الدعاء الجماعي بدعاء أحد القوم وتأمين غيره على دعائه .. إذا لم يتخذ عادة.
وكأن الإمام أحمد لم يبلغه هذا! .. قال مهنا: سألت أبا عبدالله عن الرجل يجلس إلى القوم فيدعوا هذا، ويدعو هذا، ويقولون له أدع أنت؟.
فقال: لا أدري ما هذا؟.
وما نراه اليوم من توسع البعض في طلب الدعاء من كل أحد، وخاصة جماعة المسلمين، أو طلاب العلم المجتمعين في حلق لتلاوة كتاب الله، أو تدارس العلم، يدخل في صورة الدعاء الجماعي، وهو غير مشروع في كل موطن بل له آدابه وأماكنه المخصوصة، فلا يعدو المرء ما ورد به الشرع ولا يستحسن .. فإن من وجوه البدعة أن يكون العمل مشروعًا زمانًا أو مكانًا، ثم يعمل في غير زمانه أو مكانه.
كما إن هذه الصورة بذاتها ليس عليها دليل معتبر، وقد ثبت عن السلف إنكارها.
فعن أبي عثمان، قال: كتب عامل لعمر بن الخطاب إليه: أن ها هنا قومًا يجتمعون فيدعون للمسلمين وللأمير، فكتب إليه عمر: أقبل وأقبل بهم معك، فأقبل.
وقال عمر للبواب: أعِدَّ لي سوطًا، فلمَّا دخلوا على عمر، أقبل على أميرهم ضربًا بالسوط. أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (26191): بسند لا بأس به.
وذكره ابن وضاح في (البدع المنهي عنها ص 19) .. واستدل به الشيخ بكر أبو زيد على بدعية هذا العمل كما في تصحيح الدعاء (ص72).
وعن يونس بن عبيد: أن رجلاً قال للحسن! ما ترى في مجلسنا هذا؟ قوم من أهل السنة والجماعة لا يطعنون على أحد، نجتمع في بيت هذا يومًا، وفي بيت هذا يومًا، فنقرأ كتاب الله، وندعو لأنفسنا ولعامة المسلمين؟ قال: فنهى الحسن عن ذلك أشد النهي. الاعتصام للشاطبي (2: 200).
¥