وعن أبي العباس الفضل بن مهران (وهو من جملة الأصحاب الناقلين عن أحمد) قال: سألت أحمد، قلت: إن عندنا قومًا يجتمعون فيدعون ويقرؤون القرآن، ويذكرون الله تعالى، فما ترى فيهم؟ فقال لي أحمد: تقرأ في المصحف، وتذكر الله في نفسك، وتطلب حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
وقلت: فأخ لي يفعل هذا! فأنهاه؟ قال: نعم. قلت: فإن لم يقبل؟ قال: بلى إن شاء الله تعالى. فإن هذا محدث الاجتماع الذي تصف. المقصد الأرشد (2: 316).
وقد وردت الرواية بألفاظ أصرح من سابقتها .. وفيها جواب إمام الجرح والتعديل في زمانه يحيى بن معين .. إذ قال الفضل: سألت يحيى بن معين وأحمد بن حنبل، قلت: إن عندنا قومًا يجتمعون فيدعون ويقرؤون القرآن، ويذكرون الله تعالى، فما ترى فيهم؟ قال: فأما يحيى بن معين، فقال: يقرأ في المصحف، ويدعو بعد صلاة، ويذكر الله في نفسه. قلت: فأخٌ لي يفعل هذا؟ قال: انهه، قلت: لا يقبل؟ قال: عظه، قلت: لا يقبل، أهجره؟ قال: نعم.
ثم أتيت أحمد وحكيت له نحو هذا الكلام، فقال لي أحمد (أيضًا): يقرأ في المصحف، ويذكر الله تعالى في نفسه، ويطلب حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
وقلت: فأنهاه؟ قال: نعم. قلت: فإن لم يقبل؟ قال: بلى إن شاء الله تعالى؛ فإن هذا محدث الاجتماع والذي تصف، قلت: إن لم يفعل أهجره؟ فتبسم وسكت. اهـ. الآداب الشرعية لابن مفلح.
فلم يستثن أحد منهما الدعاء أو غيره مما وصف السائل، مع أن كل عمل قام به هؤلاء له دليله العام الذي يدخل تحته، ومع ذلك لم يُقرا هذا العمل، لما فيه من الخروج على هدي السلف.
ومن تأمل الصورة الثانية من صور الدعاء الجماعي المذكورة سابقًا، وهي الختم بالدعاء في التجمعات العلمية أو الوعظية ونحو ذلك، علم أنها لا تخرج عما وُصف، فهذا من ذاك لا دليل عليه، والله أعلم.
ولا يعني هذا المنع من الدعاء للغير مطلقًا، فإن هذا من المستحبات (طلبه المرء أو لم يطلبه)، لكن الأولى أن يكون ذلك بظهر الغيب، فقد أخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) عن أكمل حالات هذه العبادة، بقوله: "ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك ولك بمثل". أخرجه مسلم.
وأولى في إجابة السائل أن يكون ذلك بظهر الغيب لا بحضوره، فهو أكمل لقوله (صلى الله عليه وسلم): "ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك ولك بمثل".
وإن كان هناك رأي لبعض محققي أهل العلم ينكرون ذلك، ويرون أنه خلاف الأولى، ولهم في ذلك سلف صالح، ولا بأس من التعريج عليه لكونه يوضح بعض ما ذهبنا إليه:
قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: "دعاء الغائب للغائب، أعظم إجابةً من دُعاء الحاضر؛ لأنه أكمل إخلاصًا وأبعدُ عن الشِّرك، فكيف يشبه دعاء من يدعو لغيره بلا سؤال منه، إلى دعاء من يدعو الله بسؤاله وهو حاضر؟ ". اهـ. الفتاوى (1: 328 ـ 329).
وقال: "من قال لغيره من الناس: ادع لي ـ أو لنا ـ وقصده أن ينتفع ذلك المأمور بالدعاء وينتفع هو أيضًا بأمره، ويفعل ذلك المأمور به كما يأمره بسائر فعل الخير، فهو مقتد بالنبي (صلى الله عليه وسلم) مؤتم به ليس هذا من السؤال المرجوح.
وأما إن لم يكن مقصوده إلا طلب حاجته لم يقصد نفع ذلك والإحسان إليه، فهذا ليس من المقتدين بالرسول المؤتَمِّين به في ذلك، بل هذا من السؤال المرجوح الذي تركه إلى الرغبة إلى الله ورسوله أفضل من الرغبة إلى المخلوق وسؤاله". اهـ. الفتاوى (1: 193).
فهذا من فقه هذه المسألة .. وقل من يتنبه له.
وقد ذكر في التوسل ثلاث مفاسد لسؤال المخلوقين:
الأولى: مفسدة الافتقار إلى غير الله.
الثانية: مفسدة إيذاء المسئول، وهو نوع من ظلم الخلق، والعبد مأمور بالإحسان إلى عباد الله.
الثالثة: وفيه ذل لغير الله، وهو ظلم النفس، ومطلوب من العبد أن يكون ذليلاً ومفتقرًا إلى الله.
وقال ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ في هذه المسألة: "هذا جائز، ولكني لا أجيزه، وأرى أن الإنسان يسأل الله تعالى بنفسه، دون أن يجعل له واسطة بينه وبين الله تعالى، وأن ذلك أقوى في الرجاء وأقرب إلى الخشية، كما أنني أرغب من الإنسان إذا طلب من أخيه الذي ترجى إجابة دعائه أن يدعو له، أن ينوي بذلك الإحسان إليه ـ أي إلى هذا الداعي ـ دون دفع حاجة هذا المدعو؛ لأنه إذا طلبه من أجل حاجته صار كسؤال المال وشبهه المذموم، أما إذا قصد نفع أخيه الداعي بالإحسان إليه ـ والإحسان إلى المسلم يثاب المرء عليه كما هو معروف ـ كان هذا أولى وأحسن والله ولي التوفيق". اهـ. فتاوى ابن عثيمين (1/ 77).
وقد كره جماعات من السلف طلب الدعاء منهم، لما في ذلك من التزكية لهم، ولاعتبارات أخرى كما سيأتي:
قال ابن رجب ـ رحمه الله ـ: " وكان كثير من السلف يكره أن يطلب منه الدعاء، ويقول لمن يسأله الدعاء: أي شيء أنا؟ وممن روى عنه ذلك: عمر بن الخطاب، وحذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنهما ـ وكذلك مالك بن دينار، وكان النخعي يكره أن يُسأل الدعاء، وكتاب رجل إلى أحمد يسأله الدعاء، فقال أحمد: إذا دعونا نحن لهذا فمن يدعو لنا؟! ". معجم المناهي (ص87).
وحمل الشاطبي ـ رحمه الله ـ امتناعهم على قدر زائد ليس لذات الدعاء، وهو أن يُعتقد فيه أنه مثل النبي، وأنه وسيلة إلى أن يُعتقد ذلك، أو أن يُعتقد أنه سنة تلزم، أو يجري في الناس مجرى السنن الملتزمة. اهـ. الاعتصام (2: 200).
وللمسألة صلة .. إن شاء الله (تعالى).
¥