ويجاب عن ذلك بأن المراد بالذلة الأولى: الذلُّ، والمهانة، والصغار على إطلاقه0 أما الذلة الثانية فالمراد منها ـ كما ذكر الفخر الرازي:" أن يحاربوا، ويقتلوا، وتغنم أموالهم، وتسبى ذرا ريهم، وتملك أراضيهم "0 وفسرها الألوسي بذلة هدْر النفس، والمال، والأهل0
ومما يدل على أن المراد بالذلة، في كل من الآيتين، ما ذكرناه من معنى، أن السياق يقتضيه؛ إذ ورد ضرب الذلة عليهم في آية البقرة عقب قوله تعالى، حكاية عن اليهود من بني إسرائيل:
{وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرًا فإن لكم ما سألتم} 0
ثم أخبر سبحانه عنهم بقوله: {وضربت عليهم الذلة00} الآية، فجاء بضمير الغائب، عقب ضمير المخاطب للإشارة إلى أن ذلك راجع إلى اليهود جميعهم، وشامل للمخاطبين بقوله تعالى: {فإن لكم ما سألتم}، ولمن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة0 ولهذا وهِم من عدَّ ذلك من قبيل الالتفات.
أما ضرب الذلة عليهم- في آية آل عمران- فقد ورد عقب قوله تعالى، في معرض الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين: {لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون} [آل عمران:111] 0 أي: لن يضروكم إلا ضررًا مقتصرًا على أذى، بقول من طعن في الدين، أو تهديد، أو نحو ذلك0 وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار منهزمين، ولا يضروكم بقتل، أو أسر، ثم لا يكون لهم نصر من أحد، ولا يمنعون منكم0
ثم أخبر سبحانه عقب ذلك عنهم بقوله: {ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وضربت عليهم المسكنة} 0 أي: أينما وجدوا، أخذوا، وقتلوا0 فهو كقوله تعالى: {فاقتلوهم حيث ثقفتموهم} [البقرة:191] 0
أما قوله تعالى: {إلا بحبل من الله وحبل من الناس} فيقتضي أن تلزمهم هذه (الذلة)، فلا تزول عنهم، أينما وجدوا، إلا بحبل من الله وحبل من الناس، على ألا يظهروا المحادَّة لله ورسوله، بالاتفاق؛ لقوله تعالى: {عن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين} [المجادلة:20] 00 وقوله تعالى: {ألم يعلموا أنه من يُحادِدِ الله ورسوله فإن له نار جهنم خالداً فيها ذلك الخزي العظيم} [التوبة:63] 0
فليس معهم حبل مطلق، بل مقيد، فهذا الحبل لا يمنعهم أن يكونوا أذلة، إذا فعلوا ما لم يعاهدوا عليه0 والمراد بالحبل: العهد والذمة0 أي: لا عز لهم قط إلا بهذه الواحدة، وهي التجاؤهم إلى العهد والذمة، لما قبلوه من الجزية0
وفي ذلك تنبيه على أن الكافر يحتاج إلى عهدين: عهد من الله تعالى، وعهد من الناس، يبذلونه له00 والأول يقتضي أن يكون ذلك الكافر من أهل كتاب أنزله الله تعالى، فإن لم يكن فلا عهد له، لا من الله تعالى، ولا من الناس0
فالاستثناء ـ هنا كما قال الألوسي متابعاً في ذلك الزمخشري ـ استثناء مفرَّغ من أعمِّ الأحوال0 والمعنى على النفي. أي: لا يسلمون من الذلة في حال من الأحوال، إلا في حال أن يكونوا معتصمين بذمة الله تعالى، أو كتابه الذي آتاهم، وذمة المسلمين، فإنهم بذلك يسلمون من القتل، والأسر، وسَبْي الذراري، واستئصال الأموال0
وقوله تعالى: {وباءوا بغضب من الله} 0أي: رجعوا به، واحتملوه وهو كناية عن استحقاقهم له، واستيجابهم إياه0 وهو من قولهم: باء فلان بفلان: إذا صار حقيقاً أن يقتل به0 فالمراد: صاروا أحقَّاء بغضب الله سبحانه00 وفي تنوين (الغضب) تعظيم لشأنه، وتفخيم له، وفي وصفه بكونه من الله تعالى تعظيم بعد تعظيم، وتفخيم بعد تفخيم0
ويفهم مما تقدم أن (الذلة) المذكورة في الآيتين، وكذلك (المسكنة)، لم تلصق باليهود، بعد ظهور دولة الإسلام ـ كما ذكر بعض المفسرين؛ وإنما ضربت عليهم ـ كما ذكر الشيخ ابن تيمية، من حين بعث المسيح صلى الله عليه وسلم فكذبوه، واستمر ذلك في أحفادهم، وسيستمر إلى يوم القيامة0 يدل على ذلك قوله تعالى: {إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة} [آل عمران:55] 0
فإذا ثبت ما ذكرناه، كان ذلك من باب المعجزات؛ لأنه- مع كونه إخبارًا عما مضى- هو إخبار عن غيب وقع، وعن غيب سيقع، إلى أن يرث الله الأرض وما عليها!
ــــــــــــــــــــــــــ
وللحديث بقية إن شاء الله!
¥