تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لكن أمتنا قد أتى عليها حين من الدهر، غابت عن حياتها الفكرية هذه الموازنة بين العقل والنقل، بين البرهان والشرع، بين آيات الله في كتاب الكون المنظور وآياته في كتاب الوحي المسطور، فركنت الأمة إلى ظواهر النصوص، وجمدت عند حرفية المأثورات، واسترابت في أنوار العقل العقلانية.

فلما كان وتحسست أمتنا ـ في عصرنا الحديث ـ طريقها إلى اليقظة والنهضة والإحياء والتجديد ـ وكانت قد حدثت صلات بينها وبين الحضارة الغربية الناهضة ـ وجدت نفسها أمام خيارين في النهضة، ونموذجين للتنوير:

أ ـ التنوير الغربي ـ الوضعى، وأحيانا المادي ـ الذي أقام قطيعة معرفية مع الموروث الديني، وذلك عندما أحل فلاسفته العقل والعلم والفلسفة محل الله والكنيسة واللاهوت، وأعلنوا أنه لاسلطان على العقل إلا للعقل وحده، وجاهروا بأن استخدام المصطلحات الدينية لايعني التخلي عن هذه القطيعة المعرفية مع الدين. "فبعد أن كان المسيحي حريصا على طاعة الله وكتابه، لم يعد الإنسان يخضع إلا لعقله، فأيديولوجية التنوير قد أقامت القطيعة الابستمولوجية "المعرفية" الكبرى التي تفصل بين عصرين من الروح البشرية: عصر الخلاصة اللاهوتية للقديس توما الأكويني، وعصر الموسوعة لفلاسفة التنوير، فمنذ الآن فصاعدا راح الأمل بمملكة الله ينزاح لكي يخلي المكان لتقدم عصر العقل وهيمنته. وهكذا راح نظام النعمة الإلهية ينمحي ويتلاشى أمام نظام الطبيعة، لقد أصبح الإنسان وحده مقياسا للإنسان، وأصبح حكم الله خاضعا لحكم الوعي البشري، الذي يطلق الحكم الأخير باسم الحرية، ويمكن للمعجم اللاهوتي القديم أن يستمر، ولكنه لم يعد يوهم أحدا، فنفس الكلمات لم يعد لها نفس المعاني" (أميل بولا "نقلا عن هاشم صالح")

وجدت أمتنا ـ وهي تتحسس طريقها لليقظة والنهوض ـ نفسها أمام هذا الخيال للتنوير الغربي ـ الوضعي، العلماني ـ الذي يقيم قطيعة معرفية مع الدين، ويفرغ مصطلحات المعجم الديني ـ إذا هو استخدمها ـ مما لها من مضامين!

ب ـ وبين "التنوير الإسلامي" ـ الجامع بين الشرع والعقل، بين الحكمة والشريعة، بين آيات الله المنزلة وآياته المبثوثة في الأنفس والآفاق.

لقد اختارت مدرسة الإحياء والتجديد التي تبلورت من حول موقظ الشرق وفيلسوف الإسلام جمال الدين الأفغاني "1254 ـ 1314 هـ 1838 ـ 1897م" اختارت لأمتنا هذا الطريق، طريق الاستنارة والتنوير بالإسلام، وليس بالقطيعة المعرفية مع الإسلام. فهي قد رفضت غلو الجمود والتقليد، حتى ولو كان أصحابه قد امتازوا بتنقية العقيدة من البدع والإضافات والخرافات، لأنهم بمعاداة العقلانية الإسلامية لم يتجاوزوا مواقع التقليد، الذي جنى على حضارتنا العربية الإسلامية "فهذا الدين يطالب المتدينين أن يأخذوا بالبرهان في أصول دينهم، وكلما خاطب خاطب العقل، وكلما حاكم حاكم إلى العقل، تنطق نصوصه بأن السعادة من نتائج العقل والبصيرة، وأن الشقاء والضلالة من لواحق الغفلة وإهمال العقل وانطفاء نور البصيرة، فالعقل مشرق الإيمان، ومن تحول عنه فقد دابر الإيمان".

وفي نفس الوقت، رفضت هذه المدرسة الإحيائية التجديدية عقلانية التنوير الغربي، تلك التي تأسست على النزعة الوضعية والمادية، فوجهت شديد النقد لفلاسفة التنوير الغربي ـ من مثل فولتير "1964 ـ 1778م" ورسو "1712 ـ 1778م" ـ وقالت عن هذا التنوير: إنه قد بعث مذهب اللذة، والدهرية وبعبارة الأفغاني: فلقد ظهر وولتير وروسو، يزعمان حماية العدل ومغالبة الظلم، والقيام بإنارة الأفكار وهداية العقول، فنبشا قبر "أبيقور" الكلبي "341 ـ 270 ق. م" وأحييا مايلي من عظام الدهريين، ونبذا كل تكليف ديني، وغرسا بذور الإباحية والاشتراك، وزعما أن الآداب الإلهية جعليات خرافية، كما زعما أن الأديان مخترعات أحدثها نقص العقل الإنساني، وجهر كلاهما بإنكار الألوهية، ورفع كل عقيرته بالتشنيع على الأنبياء، فأخذت هذه الأباطيل من نفوس الفرنساويين، فنبذوا الديانة العيسوية، وفتحوا على أنفسهم أبواب الشريعة المقدسة ـ في زعمهم ـ شريعة الطبيعة، ولقد بذل نابليون الأول جهده في إعادة الديانة المسيحية إلى ذلك الشعب، استدراكا لشأنه، لكنه لم يستطع محو آثار تلك الأضاليل".

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير