تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

بدينٍ غير الدين الذى يعتنقونه، ولسان غير اللسان الذى كانوا يتكلمونه؟ ولماذا لم يتكلم ويصدع بالحقيقة واحد مثل ثيوفان الكاتب البيزنطى الذى أتى بعد عصر الرسول ببضعة عقود ليس إلا وأخذ على عاتقه محاربة الإسلام، بدلا من نسبة الأكاذيب إلى الرسول الكريم وأصحابه على عادة المبشرين؟ ترى هل من الممكن أن يتم تزييف شىء مثل هذا ثم تسكت الدنيا كلها عنه فلا تتكلم ولا تعترض أو لا تبدى على الأقل شكًّا، إلى أن هلّ علينا الطبيب الفرنسى المأفون بعد أربعة عشر قرنا من الزمان فعدل الوضع المائل؟ واعتمادا على ماذا؟ اعتمادا على أوهام ما أنزل الله بها من سلطان! ثم ما دخل المعنى الذى يدعيه، صوابًا أو خطأً، لكلمة "مكة" فى الآرامية فى أن تكون تلك المدينة حيًّا فى دمشق لا مدينةً فى جزيرة العرب؟ إن كلامه يوحى بأن كلمة "مكة" ليست عربية، وهو سخف آخر من سخافات الرجل الذى من الواضح أنه لا يفقه شيئا بالمرة فى موضوعنا، بل ينقل من كتب بعض المستشرقين ما يوافق هواه دون عقل أو فهم! فالآرامية والسريانية والكلدانية والأشورية والعبرية والحبشية ... كل هذه اللغات، مَثَلها مَثَل العربية، لغاتٌ ساميّة، بالضبط مثلما نقول إن الفرنسية والطليانية والإسبانية والبرتغالية هى لغات لاتينية، أىْ لغات تفرعت من اللغة الأم واستقلت بنفسها. وعلى هذا فالقول بأن هذه الكلمة الموجودة فى لساننا العربى أو تلك ليست عربية بل سريانية مثلا أو آرامية هو فى الواقع كلام يُقْصَد به التلبيس على القارئ العادىّ الذى لا يعرف شيئا عن الموضوع، إذ ليس هناك أى دليل على أن ذلك صحيح، فضلاً عن أنْ ليس هناك من معنًى لأن تُخْتَصّ العربية دون أخواتها الساميات بالأخذ عنهن بدلا من القول المنطقى العاقل بأنها تشتمل على هذه الألفاظ كما تشتمل عليها أخواتها.

والعجيب أن الطبيب الفرنسى المخبول يرجع إنكاره وجود مكة إلى أنها تقع فى وادٍ جديب غير ذى ماء ولا زرع. أفنكذّب إذن أقاربنا ومعارفنا وكل المصريين والعرب والمسلمين وكل الكتّاب والرحالة من مسلمين وغير مسلمين ممن زاروا مكة قبل توظيف شطر من أموال النفط فى تحلية ماء البحر الأحمر لسكانها ولسائر أهل السعودية والخليج كله عموما، ونقول لهم: وإِنِنْ! مهما قلتم لنا عن مكة فليس لمكة وجود! لقد نسى المجنون أن زمزم كانت ولا تزال هناك طول الوقت يشرب الناس ويستمدون حاجاتهم الأخرى من مائها فتكفيهم هم وضيوف الرحمن بحمد الله. وهذا أمر قد شهد به المستشرقون الذين استطاعوا الاندساس بين الحجيج والتظاهر بأنهم مسلمون وكتبوا عن البلد الأمين. وحتى بعد أن توفر لها ماء البحر المحلَّى فلا تزال المنطقة المحيطة بها واديا غير ذى زرع. وما زال الناس كذلك يقطنونها ويحبون العيش فيها حتى الآن رغم شدة حرارتها، وسيظلون يفعلون ذلك إلى ما شاء الله. وعلى أى حال فليس العيش فيها بالصعوبة التى عليها الحياة فى مناطق الإسكيمو ولا بواحد على المليون منها، ومع ذلك فتلك المناطق تعجّ بالسكان ويحبها أهلها كما يحب أهل كل بلد بلدهم!

لقد فات ذلك المخبول أن الأصل فى الأخبار عموما أنها صادقة ما لم يقم دليل على عكس ذلك أو يَحُكْ فى النفس شىء مما سمعتْه، فعندئذ يشك الإنسان فيما بلغه، وحقّ له أن يشك. فما الذى فى الخندق أو فى وجود مكة أو المدينة مما يبعث على الريبة؟ لقد كان أحرى بهذا المجنون أن يذهب فيقرأ أولا قبل أن يتهور كل هذا التهور. هل يمكن أن يتصور عاقل أنه لم تكن هناك فى بلاد العرب قبل الإسلام مدينة اسمها مكة، ثم نبتت هكذا نبتا عفاريتيا بعده، ثم لم يبد أحد دهشته (وبخاصة من سكانها الجدد الذين لم يكن لهم قبل ذلك وجود) من هذا التراث الغزير الهائل الذى يدور حولها شعرًا ونثرًا وتاريخًا ودينًا وأنسابًا والقائل بأنها طول عمرها كانت موجودة فى جزيرة العرب؟ أترى الذين أنشأوا تلك المدينة وأَتَوْا بالناس ووضعوهم فيها كما توضع البلاليص فى أماكنها دون أن يؤخذ لهم رأى قد ألزقوا لاصقًا على أفواههم إلى أن انطمست ذاكرتهم ولم يعودوا يعرفون شيئا عن أصلهم أو فصلهم ولا عن أصل مدينتهم أو فصلها، فعند ذلك رفعوا اللاصق وسمحوا لهم بالكلام؟ وهل فعلوا مثل ذلك مع سكان الأرض جميعا بما فيهم النصارى واليهود الذين كانوا يعيشون فى جزيرة العرب قبل الإسلام ثم تم إجلاؤهم عنها

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير