تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الجمادات، إذ قسمتها اللغة بين الذكورة والأنوثة غير مؤثرة الرجل بالجميل أو الجليل أو النظيف، بل نرى الشمس مثلا مؤنثة، والقمر مذكرا رغم أنها أقوى منه نورا وحرارة وتحتاج إليها النباتات مثلا فى عملية التمثيل الغذائى. ونفس الشىء قد روعى فى أسماء الآلة، إذ لدينا المكنسة والمنشار، والدبابة والخزّان. ويمكنك أن تقول الشىء ذاته فى صيغ الجمع، فعندنا جمع المذكر، وعندنا فى مواجهته جمع المؤنث، بل إن هذا الجمع ليشمل أيضا بعض ذكور البشر والجمادات المذكرة كما فى "طلحات، و"حمزات" و"باشوات" و"حمامات". أما فى جمع التكسير فلدينا منه ما هو مذكر الصيغة، مثل: "رُكّع"، و"أشدّاء"، و"نُوّام"، وما هو مؤنثها، مثل: "قِرَدَة"، و"أمزجة"، و"غِلْمَة"، و"عباقرة". ومرة أخرى ليس ذلك فقط، فقد آثرت اللغة الأنوثة ببعض الأشياء فقَصَرَتْها عليها، وهذا واضح فى أعضاء الإنسان المزدوجة كالذراعين والكتفين والأذنين، فكلها، فى القول الأعم على الأقل، مؤنثة ... كذلك فالزهور والأشجار كلها تقريبا مؤنثة. كما أن هناك ألوانا من المصادر مغلقة على صيغة التأنيث، وهى المصادر الصناعية ومصادر الأفعال الثلاثية التى على وزن "فَعُل يَفْعُل"، ومصادر المهن والوظائف، مثل: الحرية والاشتراكية والواقعية والذاتية والغيرية والنرجسية والجنسية والقومية والوطنية والفردية والجماعية ... من الأولى، ومثل: السهولة والصعوبة والبطولة والنعومة والخشونة والبلادة والأناقة واللباقة والطرافة والسماحة، ومثل: الوزارة والصناعة والتجارة والنجارة والنقاشة والحدادة والسباكة والحياكة والكتابة ... من الثالثة.

ومرة أخرى ليس ذلك فقط، بل إن اللغة تختار للنساء أكرم الألفاظ، فهن عِرْض الرجل وشرفه، وهن حريمه. ومرة أخرى ليس ذلك فقط، بل إن اللغة لتزخر بروائع الأدب شعرا ونثرا فى التغزل بالمرأة ورفعها مكانا ساميا حتى ليخلع عليها الرجل قدرة سحرية، وحتى ليتعبّد لها، وحتى ليقدم روحه فداء لها، ويخاف عليها من خطرات النسيم، ويترامى على قدميها، ويبذل فى مرضاتها كل ما يقدر عليه، متمنيا أن تجود عليه بنظرة عطف ورضا، وساعتئذ يشعر وكأن الدنيا قد حِيزَتْ كلها له من أركانها الأربعة. يستوى فى ذلك العُذْرِيّون الذين ينظرون إلى المرأة وكأنها روح شفاف أو ما إلى ذلك بسبيل، والذين ينظرون إلى جسدها فى المحل الأول أو فى المحل الأول والأخير، والذين يجمعون بين النظرتين. نعم يستوى فى ذلك عنترة وجميل وكُثَيِّر والعباس بن الأحنف، وامرؤ القيس والعَرْجِىّ وبشار وربيعة الرَّقّىّ، وابن زيدون وأبو فراس الحَمْدانى والبهاء زُهَيْر مثلا. فكيف بالله يقال إن اللغة ذكورية؟ تَعِسَ من يقول ذلك وبَؤُس! ليس ذلك فقط، فاللغة المتهمة بأنها تنحاز للذكر ضد الأنثى هى نفسها ذات اسم مؤنث كما هو جَلِىٌّ حتى للأعمى الذى لا يبصر! صحيح أن هناك لفظ "اللسان"، وهو مذكَّر، إلا أن العرف قد استقر على استعمال لفظة "اللغة" منذ وقتٍ جِدِّ بعيد. كما أن الوحدات التى تتكون منها اللغة هى الجمل، ومفردها "جملة"، وهى مؤنثة، مثلما أن وحدات الجملة هى الكلمات، ومفردها كلمة، وهى مؤنثة. صحيح أن هناك اللفظ، وهو مذكر، إلا أن هناك أيضا اللفظة، وهى مؤنثة. وعندنا كذلك "الفصاحة" و"البلاغة" و"القراءة" و"الكتابة"، وكلها مؤنثة. حتى "الفحولة" التى يوصف بها الأسلوب ويتعلق بها بعضهم، كما سوف نرى عما قليل، للتدليل على أن الأمر فى اللغة والتفوق فيها أمر ذكورة، هذه الفحولة هى أيضا مؤنثة رغم أنها تشير إلى صفة من صفات الرجل. وانظر إلى كلمة "القوة" ومقابلها: "الضعف" لترى كيف أن اللغة المتهمة بالانحياز إلى الرجل ضد المرأة قد جعلت القوة مؤنثة، والضعف مذكرا، مثلما جعلت "الحياة" مؤنثة، و"الموت" مذكرا. صحيح أن لدينا "الحيوان" بمعنى "الحياة"، وهو مذكر، إلا أنه استعمال شبه ميت، ولولا أنه ورد فى القرآن مرة يتيمة إزاء لفظة "الحياة"، التى وردت فيها عشرات المرات لما تنبه إليها أحد، اللهم إلا من ينقّرون فى خبايا اللغة وزواياها البعيدة. وقل الشىء ذاته فى "الأبوة" و"الأمومة" و"الأُخُوّة" و"البنوة" و"العمومة" و"الخؤولة" فى جانب، و"اليتم" فى الجانب الآخر. وعندنا "المعجزة" و"الآية"، وكلتاهما مؤنثة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير