تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وهو، جل فى علاه، يعرف أن للطاقة البشرية حدودا فى التفوق والاستمرار مهما كانت المغريات والدوافع. ببساطة لأنه هو الذى خلقهم على هذا المنوال لحكمة يعلمها. وهو سبحانه يعلم أن تلك الفورة الأولى لا يمكن أن تستمر دون أن يعتريها فتور ولا كلال، لكنه يعلم أيضا أن هذه هى الطريقة المثلى لاستفزاز طاقات المؤمنين فى فورتهم الأولى. وهذا يذكرنى بما نقوله بلغة الكرة من أنه لا بد للفريق أن يبكّر بإحراز هدف أو هدفين فى بداية المباراة حتى ترتفع روحه المعنوية ويتسيّد الملعب قبل أن يتنبه الفريق الآخر ويلم صفوفه ويبادله الهجمات، فـ"اليد السابقة سابقة" كما يقال فى الأمثال الشعبية. كذلك يشير القرآن المجيد إلى هذا التأثير السلبى لعامل الزمن فى قوله جل جلاله: "أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ" (الحديد/ 16). وبالمثل يقول الكتاب الكريم عن المشركين المتحجرين الذين لا يريدون أن يصيخوا إلى صوت العقل والهدى ويعودوا إلى الصواب فيؤمنوا بالدين الجديد: "بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ... " (الأنبياء/ 44). فمن الواضح أن طول العمر والتمتع بطيبات الحياة قد أنسى المشركين ما ينبغى عمله وما لا ينبغى وجعلهم يخلدون إلى الانحراف لا يشعرون بأى قلق أو اختلاجة ضمير، إلى أن تقع الكارثة فيتصوروا أنها قد وقعت بغتة، غير دارين أنه كان لها مقدماتها الطويلة، إلا أنهم لم يلتفتوا إليها فى غمرة بلادتهم ولامبالاتهم.

وفى آية أخرى نسمع موسى عليه الصلاة والسلام يخاطب قومه معنفا لهم على ارتكاسهم فى الوثنية وعبادتهم العجل أثناء غيابه عنهم فوق الجبل للقاء ربه رغم أن المسألة لم تتعدَّ أربعين ليلة: "فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي" (طه/ 86). فإذا كانت هناك أمة ترتكس فى غضون هذه المدة الزمنية الضئيلة، فما أعظم أمة الإسلام، التى ظل رجالها، رغم عيوبهم التى لا يمكن نكرانها أو تخفيفها، قابضين فى أيديهم بكل جسارة وبراعة على مقاليد الحكم والسياسة والثقافة والدين والاقتصاد دهرا طويلا من الزمان، وبنجاح نادر، كانوا يحكمون خلالها أمما شتى وأَرَضِينَ بعَرْض الكرة الأرضية المعروفة أيامئذ، مما يضيف إلى عامل الزمن واستطالته عاملا آخر هو ترامى حدود الدولة على هذا النحو العجيب!

وهذا الضعف وما يؤدى إليه من تفكك وانهيار فى نهاية المطاف يرجع إلى عوامل شتى منها الذاتى، ومنها الخارجى. فالغرائز تنبع من داخل الإنسان، وليس بمكنته أن يتجاهلها أو ينتصر عليها تماما، بل هى كالوحش الكاسر تحتاج إلى براعة ومرونة وإشباع وتدليل، وإلا افترست صاحبها افتراسا لا يعرف الرحمة. ومهما اجتهد البشر فى السموّ بغرائزهم والتقليل من الخضوع لها والاشتغال بمعالى الأمور، فإن تلك الغرائز سوف تنهض من مرقدها هناك فى أعماق النفس والجسد وتطل برأسها وتطالب بالإشباع. وليس فى مستطاع البشر على الدوام أن يلجموها ويحصروها فى الحدود المعقولة. أترى الذين يصيبون ترفًا ومالاً ينصبّ فى حجورهم انصبابا يستطيعون دائما مقاومة إغراءات هذا المال وما يمكن أن يحققه لهم من سلطان وقوة وإشباع لشهوات النفس فلا يضعفوا ولا تفتر عزيمتهم أبدا؟ ولو افترضنا أن الجيل الأول الذى حقق هذا الرخاء قد نجح فى أن يحافظ على تماسكه أمام هذا السيل العرم، بل لنفترض أن الجيل التالى والذى يليه استطاعا أيضا ذلك، فهل يظن ظانٌّ أن هذا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية؟ هذا ما لا يمكن أن يكون لأن هذا هو ما علّمَناه التاريخ والتجارب التى تقع لنا وتقع لمن حولنا ممن نعرف ومن لا نعرف. ولقد تجاهر مثلا كثير من الشعراء المسلمين بالنظم فى الخمر والجوارى والغلمان وأكثروا منه دون حرج، وتقبلت الجماهير منهم هذا دون حرج أيضا، وأغدق الخلفاء الأموال على مداحيهم من الشعراء إغداقا، وملأ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير