تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والآن، وبعد أن وضعنا كلا النصين بإزاء الآخر، هيا بنا إلى الملاحظات التي يخرج بها المرء من المقارنة المذكورة: فعبارة "الوقت الآن متأخر" صارت عند المنفلوطي: "مضى الليل إلا أقله" مع أنه ليس شرطا أن يكون تأخُّر الوقت قد بلغ هذا المبلغ، فقد يكون الوقت متأخرا عند قوم بدءا من الثانية عشرة مساء مثلا، بل قد يبدأ التأخر قبل ذلك عند آخرين. بل إنه لمن المحتمل أن يكون تأخر الوقت نهارا لا ليلا. لكن المنفلوطي حسم الأمر وجعل الليل يمضى إلا أقله، وهو ما يعنى أن الفجر كان قد أوشك أن يطلع على ستيفن، وهو لم ينم بعد. وهذا ما أكده المنفلوطى حين قال إنه "لم يبق إلا أن تنفرج لِمَّة الظلام عن جبين الفجر". وقد عثرت بهذه العبارة في "العبرات" أكثر من مرة: ممن ذلك قوله في قصة "اليتيم": "فلم أزل واقفًا مكاني لا أبرحه حتى رأيته قد طوى كتابه وفارق مجلسه وأوى إلى فراشه، فانصرفت إلى مخدعي، وقد مضى الليل إلا أقله، ولم يبق في سواده في صفحة هذا الوجود إلا بقايا أسطر يوشك أن يمتد إليها لسان الصباحفيأتي عليها" , مما يومئ إلى أنها واحدة من العبارات الجاهزة في ذهن المنفلوطي، انبجست من شق قلمه دون تريُّث، بغض النظر عن مدى مطابقتها للأصل الفرنسي. كذلك فقول ستيفن إنه لا يزال "قلق المضجع" معناه أنه كان في السرير يحاول النوم فلا يجد النوم إلى جفنه طريقا، وهو ما لا تتحمله العبارة الفرنسية التي ينص فيها ستيفن على أنه كان بجوار المصطلى. أي كان، فيما يغلب على الظن، جالسا على كرسي ذي مساند يستدفئ قرب الموقد على عادة الأجانب في مثل تلك الظروف. ولم يكتف المنفلوطي بهذا، بل زاد فأكد أن ستيفن كان يعالج النوم بكل ما يستطيع فلا يواتيه النوم. ولم يقل المنفلوطي هذا مرة واحدة، بل قاله مرتين بعبارتين مترادفتين: "أطلب الراحة فلا أجدها، وأهتف بالغمض فلا أعرف السبيل إليه". كذلك نرى ستيفن في الطبعة العربية يشير إلى سخرية إدوار منه رغم أن النص الفرنسي هنا يخلو خلوا تاما من هذا. إنني لا أخطّئ المنفلوطي، بل أشير فقط إلى الفروق التي بين العملين. ذلك أن من الممكن جدا أن يقال إن ستيفن قد فهم كلام إدوار على أنه سخرية منه، وأن هذا ما فهمه المنفلوطي. إلا أنني أحاول أن أحصر نفسي وعملي فيما هو أمامي في الأصل دون اعتبار لما يكمن بين السطور، إن كان ثمة فعلا شيء يكمن بينها. وبالمثل يخلو النص المنفلوطي تماما مما يوجد في الأصل الفرنسي من صور مثل: "انطفاء شاعرية روحي" أو "أرى أحلامي الجميلة وقد اصفرت وأخذت تتساقط ورقة إثر ورقة"، إذ اكتفى، رحمه الله، بأداء المعنى هنا عاريا عن الصور البلاغية كما هو واضح.

والآن تعال ننظر كيف تحولت عبارة "الرغبة والأمل" إلى "الآمال الحِسَان"، مثلما تحول "الجناحان اللذان انتزعاني من الأرض وبلغا بي سحب الصباح الوردية" إلى "أنبتَ في جناحيّ هذه القوادم والخوافي"، مثلما تحول أيضا "يدهورني إلى الأرض بهذه القوة" إلى "يهيضني ويتركني في مكاني كسيرا لا أنهض ولا أطير" ... وهكذا. أما قول المنفلوطي: "على أنى ما ذهبت بعيدا ولا طلبت مستحيلا، فكل ما أطمع فيه من جمال العالم وزخرفه" فلا وجود له في النص الفرنسي. ولكن قوله: "رفيق آنَسُ بقربه وجواره، وأجد لذة العيش في التحدث معه والسكون إليه. وما الرجال، كما يقولون، إلا أنصافٌ ماثلةٌ تطلب أنصافها الأخرى بين مخادع النساء، فلا يزال الرجل يشعر بذلك النقص الذي كان يشعر به آدم قبل أن تتغير صورة ضلعه الأيسر حتى يعثر بالمرأة التي خُلِقَتْ له فيَقَرّ قرارُه" هو نقلٌ لما قال ستيفن من بعيد، وبتصرفٍ واسع لا يأتيه إلا واحد كالمنفلوطي لم يكن يترجم، بل يسمع أو يقرأ ما يقال له فيتذكر خلاصته على وجه الإجمال، ثم يشرع في صياغة ذلك عربيًّا بأسلوب يضع نصب عينيه جمال العبارة قبل دقتها. كذلك لم يكتف المنفلوطي بالمثال الذي ضربه ستيفن للفرق بين الطبيعة والتصور الإنساني لها، وهو وصف الشعراء لشروق الشمس، بل ألحق بذلك وصف هبوط الليل وجمال الغابة، وهو ما لا وجود له في كلام ستيفن، وكذلك وصف شموخ الجبل، الذي جاء ذكره قبلا في سياق جزئي مختلف.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير