تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إن أحلام الخيال ليست إلا انعكاسا شاحبا لما تصنعه يد الله. ترى أيصح الظن بأن عقلنا، من خلال مثل تلك الموهبة البائسة، يمكنه أن يحتاز قدرة على الخلق أعظم من قدرة الله، وأن لديه القوة على تخيل سعادة لم يجعلها الله له؟ كلا. إن هذه السعادة التي أشعر بالحاجة إليها قد خلقها الله من أجلى مثلما خلق الشمس التي تحيى الأشجار، والريح العاطرة التي ترعش الأوراق. وإذا كان إدوار على حق فإني أدعو الله ألا يطيل أيامي إلى ما بعد تحطم آمالي وألا يُكْتَب علىّ ارتداء ملابس الحداد على روحي وألا أرى نفسي، بعد شعوري بأن رأسي قد بلغ السحاب وأن أنفاس الملائكة تداعبه، قد عدت أزحف في التراب مثل سلحفاة باردة!

وعلى أية حال فلسوف أرى ماذا يحدث، ولا أظنني سأعيش بعد أن يكون عمري قد وَلَّى. وهأنذا أسجل انطباعاتي في كثير من الأحيان وأقارنها. وفى اليوم الذي أتيقن أن ما بقلبي ليس إلا فقاعة صابون براقة سرعان ما تنفثئ وتتلاشى وأن سعادتي سوف تفر منى كما يفر الماء من خلال الأصابع المطبقة عليه فإني سوف أرحل عن هذه الدنيا وأبتهل إلى الله في السماء أن يحقق لي ما كان قد وعدنيه على الأرض، إذ هو أب رحيم، وما من حاجة لنا إلا وتنطوي على وعد بتحقيقها".

هذه ترجمتي للفصل المذكور، ثم ها هي ذي تأدية المنفلوطي له: "مضى الليل إلا أقله، ولم يبق إلا أن تنفرج لمّة الظلام عن جبين الفجر، ولا أزال ساهرا قلق المضجع أطلب الراحة فلا أجدها، وأهتف بالغمض فلا أعرف السبيل إليه. إن إدوار يسخر منى في كتابه ويهزأ بي وينذرني بيوم أرى فيه أوهاما كاذبة وأحلاما باطلة ما كنت أحسبه أمانيّ وآمالا، ويرى أن جميع ما أقدّره لنفسي من سعادةٍ في الحياة وهناءٍ أشبهُ شيءٍ بالخيالات الشعرية التي يسعد الشعراء بتصورها ولا يسعدون بوجودها. فلئن كان ما قال حقا؛ فما أمرَّ طعم العيش، وما أظلم وجه الحياة! لا لا، إن الذي غرس في قلبي هذه الآمال الحِسَان لا يعجز عن أن يتعهدها بلطفه وعنايته حتى تخرج ثمارها وتتلألأ أزهارها، وإن الذي أنبت في جناحيّ هذه القوادم والخوافي لا يرضى أن يَهِيضني ويتركني في مكاني كسيرا لا أنهض ولا أطير، وإن الذي سلبني كل ما يؤمّل الآخرون في هذه الحياة من سرور وغبطة ولم يُبْقِ لى منها إلا حلاوة الأمل ولذته؛ لأَجَلُّ من أن يقسو علىّ القسوة كلها فيسلبني تلك الثمالة الباقية التي هي مِلاَك يميني وقِوَام حياتي.

على أنني ما ذهبتُ بعيدا ولا طلبتُ مستحيلا، فكل ما أطمع فيه من جمال هذا العالم وزخرفه رفيقٌ آنَسُ بقربه وجواره، وأجد لذة العيش في الكون معه والسكون إليه. وما الرجال، كما يقولون، إلا أنصافٌ ماثلةٌ تطلب أنصافها الأخرى بين مخادع النساء، فلا يزال أحدهم يشعر في نفسه بذلك النقص الذي كان يشعر به آدم قبل أن تتغير صورة ضلعه الأيسر حتى يعثر بالمرأة التي خُلِقَتْ له فيَقَرّ قرارُه ويُلْقِى عصاه.

وبعد، فأي مقدور من المقدورات تضيق به قوة الله وحيلته؟ وأي عقل من عقول هذه المخلوقات يستطيع أن يبدع في تصوراته وتخيلاته الذهنية فوق ما تبدع يد القدرة في مصنوعاتها وآثارها؟ وهل الصور والخيالات التي تمتلئ بها أذهاننا وتهتف بها عقولنا إلا رسوم ضئيلة لحقائق هذا الكون وبدائعه؟ ولو أن سامعا سمع وصف منظر الشمس عند طلوعها أو مهبط الليل عند نزوله أو جمال غابة من الغابات أو علوّ جبل من الجبال ثم رأى بعد ذلك عيانا ما كان يراه تصورا وخيالا لعلم أن جمال الكائنات فوق جمال التصورات، وحقائق الموجودات فوق هواتف الخيالات. لذلك أعتقد أنى ما تخيلتُ هذه السعادة التي أقدّرها لنفسي إلا لأنها كائن من الكائنات الموجودة وأنها آتية لا ريب فيها. إن اليوم الذي أشعر فيه بخيبة آمالي وانقطاع حبل رجائي يجب أن يكون آخر يوم من أيام حياتي. فلا خير في حياة يحياها المرء بغير قلب، ولا خير في قلب يخفق بغير حب".

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير