بالفعل إذ دلالة اللفظ على الطلاق ليست دلالة مطابقة أو تضمن يعتد بها في إنفاذ الحكم مباشرة دون نظر في القرائن المحتفة، بل هي دلالة لزوم، وهي، كما تقدم، دلالة ضعيفة تفتقر إلى التقوية بالنية أو بالقرينة الحالية، فقد يكون بساط الحال قرينة معتبرة تكفي في الجزم بأن القائل قد أراد الطلاق يقينا فيغني ذلك عن سؤاله عن نيته، كما في حديث بنت الجون لما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدنا منها، قالت: أعوذ بالله منك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عذت بعظيم، الحقي بأهلك»، قال الزهري: «الحقي بأهلك تطليقة». وهذه رواية ابن حبان، رحمه الله، فبساط الحال قد دل على أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما أراد إلا طلاقها فصار ذلك قرينة ترجح أنه أراد اللازم فعلا.
بخلاف حديث توبة كعب بن مالك، رضي الله عنه، وفيه: "فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي الْحَقِي بِأَهْلِكِ فَكُونِي عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ"، فإن قرينة الحال والسياق قد دلت على أنه ما أراد باللفظ هنا لازمه الكنائي من وقوع الطلاق فلا تطلق لافتقار الكناية إلى النية لضعف دلالة اللزوم كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
قال النووي، رحمه الله، في "شرح مسلم":
"قَوْله: (فَقُلْت لِامْرَأَتِي: اِلْحَقِي بِأَهْلِك فَكُونِي عِنْدهمْ حَتَّى يَقْضِي اللَّه فِي هَذَا الْأَمْر)
هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ هَذَا اللَّفْظ لَيْسَ صَرِيحًا فِي الطَّلَاق، وَإِنَّمَا هُوَ كِنَايَة، وَلَمْ يَنْوِ بِهِ الطَّلَاق فَلَمْ يَقَع". اهـ
ودخل في علم النحو في مباحث كـ: دلالة الفعل:
فهو يدل على المعنى الذي اشتق منه: دلالة تضمن، وكذلك يدل على زمن وقوعه: دلالة تضمن، ويدل على كليهما: دلالة مطابقة، ويدل على الذات التي قام بها: دلالة لزوم فهي خارجة عن ماهيته، ولكن لا يتصور انفكاكهما، فلكل فعل فاعل، ولكل حدث محدِث، ولكل سبب مسبِب.
فالفعل: "رحم": يدل على صفة الرحمة: دلالة تضمن، وعلى وقوعها في الزمن الماضي أيضا: دلالة تضمن، وعلى كليهما: دلالة مطابقة، وعلى ذات الراحم التي قام بها وصف الرحمة: دلالة لزوم.
والفعل: "يرحم": يدل على صفة الرحمة: دلالة تضمن، وعلى وقوعها في الزمن الحاضر أو المستقبل أيضا: دلالة تضمن، وعلى كليهما: دلالة مطابقة، وعلى ذات الراحم التي قام بها وصف الرحمة: دلالة لزوم. وعلى هذا فقس.
ولذلك كان الفعل أثقل من الاسم لازدحام الدلالات فيه، فهو يدل بوضعه على: حدث وزمن، فدلالته ثنائية.
بخلاف الاسم فإنه:
إن كان دالا على معنى كالمصدر: فلا يدل بوضعه إلا على ذلك المعنى فقط، فدلالته الوضعية: أحادية، بخلاف دلالة الفعل الثنائية.
ومسألة: الترجيح بين الدلالات عند التعارض:
فدلالة المطابقة تقدم على دلالة التضمن ودلالة التضمن تقدم على دلالة الالتزام.
ومن صور ذلك:
الترجيح بين دلالة المصدر على المعنى، ودلالة الفعل أو الوصف عليه:
فالمصدر يدل على المعنى: دلالة مطابقة، بينما الفعل يدل عليه دلالة تضمن، إذ الفعل يتضمن: المعنى والزمن، وكذلك الوصف كاسم الفاعل فإنه يدل على المعنى: دلالة تضمن، إذ اسم الفاعل يتضمن الدلالة على: المعنى والذات الفاعلة التي وقع منها الفعل.
فـ: "الرحمة"، و "رحم" و "راحم": تدل على معنى الرحمة، ولكن المصدر: "الرحمة": يدل عليها دلالة مطابقة، بينما الفعل: "رحم": يدل عليها دلالة تضمن إذ الفعل الماضي يدل على وقوع المعنى في الزمن الماضي فهو يدل عليه مقيدا بزمن حدوثه، لا مطلقا كالمصدر، والدلالة المطلقة أقوى من الدلالة المقيدة، وكذلك اسم الفاعل: "راحم": يدل عليه أيضا: دلالة تضمن، إذ اسم الفاعل يدل على ذات قام بها الفعل، فهو يدل عليه مقيدا بفاعله، لا مطلقا كالمصدر، والدلالة المطلقة أقوى من الدلالة المقيدة كما تقدم.
ومن صور ذلك أيضا:
تخصيص الاسم بعلامة الإسناد، فالإسناد لا يكون إلا لاسم، وعلة ذلك كما ذكر الشيخ محيي الدين، رحمه الله، في "شرح الشذور":
¥