أن الإسناد خبر، والخبر لا يكون إلا عن ذات، ففي قولك: جاء محمد، أسند فعل المجيء إلى الذات التي دل عليها اسم "محمد"، ودلالة الاسم على الذات: دلالة مطابقة بخلاف دلالة الفعل على الذات فهي دلالة التزام إذ لا بد للفعل من فاعل، وإن كان الفاعل خارجا عن ماهية الفعل المتضمنة: حدثا وزمنا، كما تقدم، فلما كانت دلالة الاسم على الذات التي يسند إليها: دلالة مطابقة، بخلاف دلالة الفعل عليها فهي دلالة التزام، صار الإسناد أليق بالاسم منه بالفعل، إذ دلالة المطابقة أقوى من دلالة الالتزام.
وهذه تعليلات لطيفة أكثر منها الشيخ محيي الدين، رحمه الله، في شروحه، فهو ممن برع في استعمال هذه الدلالات في تعليل كثير من الأحكام النحوية.
ومبحث الدلالات من المباحث العقلية الدقيقة التي تفيد الناظر فيها فائدة عملية معتبرة في أبواب كتدبر أسماء الباري، عز وجل، فهي كما يقول أهل العلم مما تجتمع فيه أنواع الدلالات الثلاثة:
فاسم: "الحي" على سبيل المثال: يدل على ذات الباري، عز وجل، وعلى وصف الحياة: دلالة مطابقة، ويدل على أحدهما: دلالة تضمن، ويدل على بقية الصفات الإلهية: دلالة لزوم، فيدل على صفة الخلق والإرادة والتدبير والسمع والبصر ........... إلخ دلالة لزوم إذ لا يتصور قيام هذه الصفات وهي صفات كمال إلا بحي، فالحياة أصل صفات الكمال الذاتية والفعلية، فلا تقوم صفة ذات إلا بحي، ولا يقوم فعل إلا بفاعل حي، ولله المثل الأعلى، فذلك في حقه واجب من باب أولى، فله كمال الحياة الأزلية التي تدل لزوما على كمال صفاته وأفعاله تبارك وتعالى، فهو المتصف بكل أوصاف الكمال أزلا فلم يكن معطلا عن وصف كمال ثم اكتسبه بل كماله ذاتي أزلي أبدي فعنه تصدر أفعاله التي بلغت الغاية في الحكمة والإتقان.
فهو بحث أخي محمد ينفع في مثل هذه المواضع التي تنتج ثمرة عملية نافعة للمكلف فيكون زادا له في باب كهذا الباب الشريف من أبواب الديانة إذ فيه غذاء نافع للقلب يقويه على سفر الهجرة إلى ربه، عز وجل، بالتعرف على أسمائه وصفاته ودلالاتها المعنوية فيحسن التعبد والدعاء بها.
وهو على الجانب الآخر بحث قليل أو عديم الجدوى في صياغة الحدود والتكلف في البحث والتنقير عن حقائق الأشياء المجردة، حتى يؤول الأمر في نهاية المطاف إلى تعريف الواضحات بل البدهيات، كحال من يقول لك مثلا: عرف العين أو الأنف أو اليد أو القدم .... إلخ في المحسوسات، أو عرف الغضب أو المحبة أو الرضا ....... إلخ في المعقولات، مع أنها أمور يعرف المراد منها بمجرد النطق بالألفاظ الدالة عليها فلا تفتقر إلى حد شارح لها بل الحد في كثير من الأحيان قد يزيدها غموضا فيكون قد أدى إلى ضد المراد منه، كغالب تعريفات المناطقة التي وعرت مسالك الفهم على المخاطبين فصيرت الواضح مبهما والبين مشكلا، مع ادعاء المناطقة أن علمهم آلة تساعد الناظر على الفهم!، وهي في حقيقتها في أغلب مباحثها: لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ لَا سَهْلٍ فَيُرْتَقَى وَلَا سَمِينٍ فَيُنْتَقَلُ.
فمن عرف المحبة فقد زادها خفاء، كما يقول ابن القيم رحمه الله، فتركها بلا تعريف هو عين تعريفها لئلا تفسدها الحدود والفواصل!.
ومن عرف الواجب بثمرته: ما وعد فاعله بالثواب ........ إلخ، فذلك أبين من تعريفه بالحد: مقتضى خطاب الله، عز وجل، المتعلق بفعل المكلف على سبيل الاقتضاء الجازم فعلا. فالثاني قد يخفى على كثير من المكلفين بخلاف الأول فالكل يدرك أن ترك الواجب يعرض صاحبه للعقاب.
ومن منع التعريف بالضد فإنه يقال له: قد يكون التعريف بالضد أبين إذ بضدها تتميز الأشياء كما يقال، فما المانع من تعريف الليل بأنه: ضد النهار؟، فذلك أقرب إلى ذهن المخاطب من التعريف بالحد لو احتاج إلى تعريف الليل أصلا!.
وقد يحصل التعريف بالمرادف كمن عرف "المرداس" وفيه نوع خفاء بمرادفه: "الأسد" فه أبين منه.
وقد يحصل التعريف بالإشارة أو المحاكاة، كما يقول بعض أهل العلم المعاصرين، كمن عرف الصفير بأن يحاكي الطير في صفيره فذلك أبين من قوله: الصفير: الصوت الصادر من حنجرة الطائر ......... إلخ.
فالضابط أن يفهم المخاطب مراد المتكلم، وهل كان أحد من أهل القرون الفاضلة وهم أصح الناس فهوما وألسنة يحتاج إلى يحد الكلام بحد جامع مانع ليتصوره، بل هل يحتاج أحد إلى ذلك في زماننا، ولو لم يكن على دراية بمباحث النحو؟
وهو مبحث محمد: ينتج فوائد جليلة في أحيان كما في دلالات الأسماء والصفات الإلهية، وينتج لطائف كما في التعليلات النحوية آنفة الذكر، ولا يعود بنفع كبير في أحيان كما في مباحث صناعة الحدود على طريقة المناطقة والتكلف في اختيار ألفاظها وانتقادها ........ إلخ، وهو الغالب على صنيع المتأخرين، في عصور التقليد والجمود المتأخرة، لا سيما في المتون المختصرة في القفه والأصول فهي، أحيانا، تشبه الألغاز مع كونها مكتوبة بعربية سليمة بل فصيحة.
والله أعلى وأعلم.
عذرا على الاستطراد أخي محمد، فلعل الباري عز وجل أن يجعل فيه إفادة للكاتب والقارئ في تصور هذه المسألة.
¥