وأمَّا رأي سيبويه وَمن وافقه حيث عدّوا هذه المسألة من باب الفصل بين المتضايفين، ولا يخفى ما في هذا القول من التَّكلُّف حيث الحذف والتَّقديم، كما يلزم منه الفصل بين المتضايفين، وهو " خاصٌّ بالشعر أو شاذٌّ في الكلام الفصيح " (15)، كما ناقضوا قولهم في مسألة شبيهة بهذه المسألة، وذلك في باب التَّنازع إذْ يرون فيه إعمال الثَّاني، أمَّا هنا فيرون إعمال الأول. كما " يلزم على مذهب سيبويه التَّهيئة والقطع؛ لأنَّه حذف الضمير من (الرِّجْل) وهيَّأه للعمل في (مَنْ) ثُمَّ لَمْ يُعمِله " (16).
قال في حاشية الصًّبَّان تعليقًا على مذهب سيبويه: " لعلَّ الحامل له على ذلك أنَّ الحذف أليق بالثَّواني لكنَّه مع ما فيه من التَّكلُّف يُضَعِّفه قول الشاعر:
بَنُو وبَنَاتِنَا كِرَامٌ فَمَنْ نَوَى
مُصَاهَرَةً فَلْيَنْأَ إِنْ لَمْ يَكُنْ كُفْأَ
وقول الآخر " بمثلِ أو أحسن مِنْ شمسِ الضُّحى " إذ لا يفصل بين المتضايفين إذا كان الثاني ضميراً ولأن مطلوب أحسن (مِنْ) و مجرورها ومطلوب (مِثْل) مضاف إليه كذا في الدماميني " (17).
أمَّا رأي المُبَرِّد فهو خالٍ من التَّكلُّف؛ فهو على تأويل حذف المضاف إليه من الأول لدلالة الثَّاني عليه، وفيه سلامة من الفصل بين المضاف والمضاف إليه، الخاص بالشِّعر أو الشَّاذ في الكلام.
قال في المقاصد الشَّافية عند شرحه لقول ابن مالك:
ويُحذفُ الثاني فيبقى الأولُ
كحالهِ إذا به يتصلُ
بشرطِ عطفٍ وإضافةٍ إلى
مثلِ الذي لهُ أضفتَ الأوَّلا
" فإنَّ النَّاظم ارتضى فيه الجواز قياسًا على تأويل حذف المضاف إليه من الأوَّل. أمَّا الجواز قياسًا فهو أحد المذهبين على الجملة، وهو رأيُ الفرَّاء والسيرافي. والجمهور على المنع وهو مذهب سيبويه ... والرَّاجح عند النَّاظم الأوَّل وذلك من جهة القياس والسماع.
أمَّا السماع فقد كثر فيه كثرةً تُوجِب القياس وإنْ قلَّ في نفسه فلا مانع من القياس عليه.
وأمَّا القياس فإنَّ المضاف إليه الثَّاني لمَّا كان هو الأول بعينه صار كأنَّه حاضر في موضعه، فلذلك بقي بعد الحذف على تهيئته. وأيضًا فإنَّ ذلك شبيهٌ بالإعمال فالمضاف الأوَّل كأنَّه طالبٌ للمضاف إليه الثَّاني فصار حذف الأوَّل كلا حذف وكأنَّه موجود " (18).
وأرى أنَّ الرأي الأخير – رأي المُبَرِّد وابن مالك وابن هشام – هو الصحيح. وعلى ذلك يجوز أنْ يُقَال:
(سافرَ والدُ وصاحبُ محمدٍ). وإنْ كان الأفضلُ ذكرُ الاسمين المضاف إليهما معاً.
"ومذهب المُبَرِّد أقرب، لما يلزم سيبويه من الفصل بين المضاف والمضاف إليه في السعة" (19)
فإنْ قيلَ: إنَّ هذا التأويل يؤدي إلى محذور وهو الإضمار قبل الذِّكر. قلنا: إنَّ الإضمار قبل الذِّكر موجود في كلام العرب كما في باب (نِعْمَ و بِئْسَ).
كما أنَّه قد ورد عن العرب حذف المضاف إليه دون أنْ يُعطف على المضاف مضافٌ لما يُماثل المحذوف لفظًا ومعنى كقول بعض العرب: " سلامُ عليكم " (19) بلا تنوين، يريدون (سلامُ اللهِ عليكم). وقراءة ابن محيصن: " فَلا خوفُ عليهم " (20) بالضَّم دون تنوين، تقديره: فلا خوفُ شيء (21).
وحديثًا ناقش مجمع اللغة العربية في القاهرة هذه المسألة. وجاء في قرار اللَّجنة:
" يجري في الاستعمال الحديث قولهم: مكانُ وموعدُ الحفلِ، ومُديرُ ومُحرِّرُ المجمع، وغير ذلك مِمَّا يجيءُ فيه الفصل بين المتضايفين بالعطف، وقد ورد من ذلك شواهد كثيرة في فصيح الكلام العربي، وترى اللَّجنة ألاَّ حرجَ من هذا الاستعمال " (22).
ونلحظُ على هذا القرار أنَّ المجمعَ أخذ برأي المُبرِّد ومن وافقه مِمَّن يجيزُ هذا الأسلوب، ولكنَّه عدَّ هذا الأسلوب من باب الفصل بين المتضايفين وهو رأي سيبويه. ولعلَّه كان من الأولى – إذْ أخذ بمذهب الجواز- أنْ يَعدَّ مثل هذا الأسلوب من باب الحذف والتقدير، لا من باب الفصل بين المتضايفين الذي يراه سيبويه قبيحًا ولا يجوز إلا في ضرورة الشِّعر. – والله أعلم -.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) حاشية الصبَّان (2/ 414)، المقاصد الشافية (4/ 166)، شرح التسهيل (3/ 114).
(2) أوضح المسالك (3/ 171).
(3) المقاصد الشافية (4/ 167).
(4) البيت للأعشى، انظر: شرح التسهيل (3/ 114)، الخصائص (575)، المفصَّل (136)، المقاصد الشافية (4/ 167)، شرح الرضي على الكافية (2/ 258)، الكتاب (1/ 179).
(5) البيت للفرزدق، انظر: الخصائص (575)، المفصَّل (135)، حاشية الصبَّان (2/ 414)، شرح التسهيل (3/ 115)، شرح الرضي على الكافية (2/ 258)، الكتاب (1/ 180).
(6) المقاصد الشافية (4/ 170)، الخصائص (575)، شرح الرضي على الكافية (2/ 259).
(7) المقاصد الشافية (4/ 170)، شرح الرضي على الكافية (2/ 259).
(8) أوضح المسالك (3/ 171) تحقيق: محمد محيي الدين عبدالحميد.
(9) حاشية الصبَّان (2/ 416).
(10) المقاصد الشافية (4/ 170)، حاشية الصبَّان (2/ 415 - 416).
(11) المقاصد الشافية (4/ 170).
(12) المقاصد الشافية (4/ 170).
(13) حاشية الصبَّان (2/ 416)، توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك (2/ 822).
(14) المقاصد الشافية (4/ 171).
(15) المقاصد الشافية (4/ 170).
(16) المقاصد الشافية (4/ 171).
(17) حاشية الصبَّان (2/ 415).
(18) المقاصد الشافية (4/ 169 - 170).
(19) شرح الرضي على الكافية (2/ 259).
(20) شرح التسهيل (3/ 113)، المقاصد الشافية (4/ 168).
(21) شرح التسهيل (3/ 113)، المقاصد الشافية (4/ 168)، حاشية الصبَّان (2/ 415).
(22) مظاهر التَّجديد النحوي لدى مجمع اللغة العربية في القاهرة حتى عام1984،ص 44.
¥