روى عن الإمام مالك في الموطأ: أن رقيقاً لحاطب سرقوا ناقة لرجل من مزينة فانتحروها، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب (?) فأمر عمر كثير بن الصلت بقطع أيديهم، ثم قال عمر: أراك تجيعهم؟! ثم قال: والله لأغرمنك غرماً يشق عليك. ثم قال: للمزني كم ثمن ناقتك؟ فقال المزني: كنت والله أمنعها من أربعمائة درهما ً. فقال عمر: أعطه ثمانمائة درهم. قال عمر لعبد الرحمن بن حاطب؛ أما لولا أني أظنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى لو وجدوا ما حرم الله لأكلوه لقطعتهم، ولكن والله إذا تركتهم لأغرمنك غرماً يوجعك (18)
فمن هذا الأثر نرى أن عمر (?) فهم من تشريع قطع اليد أنها عقوبة رادعة لمن يرتكب هذه الجريمة من غير حاجة تلجئه إلى الإعتداء على مال الغير حينئذ لم ير أن يمضي عليهم حد السرقة لحاجتهم للطعام. (19)
من جوانب الرأفة والرحمة في حد الحرابة والبغي
تعتبر الحرابة ـ أو قطع الطريق- من كبريات الجرائم، ومن ثم أطلق القرآن الكريم على المتورطين في ارتكابها أقصى عبارة فجعلهم محاربين لله ورسوله وساعين في الأرض بالفساد وغلظ عقوبتهم تغليظاً لم يجعلها لجريمة أخرى. يقول سبحانه وتعالى:" إنما جزاؤ الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم " المائدة / 33 ولكن تتجلى رحمة الله في حد الحرابة فيما يأتي:
أولاً ــ أن حد الحرابة يسقط بتوبة الفاعل لقوله تعالى: " إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم " المائدة / 34 وتكون التوبة بأمرين:
1 ــ إذا ترك الجاني فعل الحرابة قبل علم السلطان بالجريمة وشخص مرتكبها.
2ــ إذا سلم نفسه طائعاً للسلطان قبل ظهور قدرة السلطات عليه.
ثانياً ــ ويسقط الحد أيضاً إذا كانت الجريمة ثبتت بالإقرار ورجع الجاني عن إقراره قبل تنفيذ الحد عليه (21).
ثالثاً ــ أنه لا يسوغ للإمام توقيع الحد على البغاة إلا بعد أن يعرف حججهم ويعرض عليهم الصلح ويدعون إلى الكف عن القتل، فإن استجابوا لذلك امتنع الحاكم عن قتالهم وقتلهم.
رابعاً ــ أنه لا يجوز قتل الباغي إلا في قتال يصر الباغي على المضي فيه، ولا يجوز قتالهم إلا مقبلين فإذا أدبروا تركوا لأن قتالهم لردعهم ودفعهم لا للهجوم (22).
خامسا ـــ لا يجوز قتال البغاة بما يعم إتلافه كالنار والمنجنيق والحريق من غير ضرورة؛ لأنه لا يجوز قتل من لا يقاتل،
سادساً ـــ أنه يحرم سبي ذراريهم لأنهم مسلمون، كما يحرم إتلاف أموالهم وأخذه بدون احتياج.
سابعاً ـــ أنه من يقتل منهم لا تنتهك آدميته بعد قتله، بل لهم أن يغسلوا ويكفنوا ويصلى عليهم.
من جوانب الرأفة والرحمة في حد الردة
الارتداد جريمة من الجرائم التي تحبط ما كان من عمل صالح قبل الردة، وتستوجب العذاب الشديد في الآخرة، يقول الله تعالى (ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) البقرة / 217.
ومعلوم أن الإسلام منهج كامل للحياة فهو دين ودولة وعبادة وقيادة ومصحف وسيف وروح ومادة ودنيا وآخرة فمن دخل فيه عرف حقيقته ومن خرج منه فالإسلام يوجب عقوبة الإعدام على المرتد، ومع ذلك فإننا نلحظ جوانب للرأفة والرحمة قبل توقيع الحد على المرتد من ذلك:
أولاًـ أن حد الردة لا يطبق إلا بعد التحقق من أن المرتد عالم بالحكم الشرعي لعمله وعلى هذا الأساس إذا
ثبت أن مرتكب الفعل ارتكبه عن جهل فإن حد الردة لا يطبق عليه.
ثانياً ـ أن من ارتد وهو سكران لا يقتل حتى يفيق من سكره ويستتاب.
ثالثاًـ أن حد الردة لا يطبق على المرتد إلا بعد أن يستتاب أي يطلب منه التوبة والرجوع إلى الإسلام، قال
تعالى: " فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم " البقرة / 192
رابعاًـ أن المرتدة إن كانت مرضعة يتأخر قتلها حتى تتم الرضاعة وكذلك إن كانت حاملاً حتى تضع حملها
خامساً ـ أن المرتد إن كان صبياً فلا يقتل إلا بعد بلوغه ومضي ثلاثة أيام على بلوغه ويعلم بخطورة ما ارتكبه
سادساً ـ أن المرتد إذا رجع إلى الإسلام حتى ولو بعد صدور الحكم عليه بالقتل، وإلى ما قبل تنفيذ الحد فإنه يترتب على ذلك سقوط حد الردة.
¥