فأنت ترى أن طرق الهداية وسبل السعادة وأنماطها متعددة ومختلفة عند الأولياء وأن أعلى مقامات التصوف - وهو مقام القطبانية - بيد الأولياء وأن المريد لا يبلغها إلا إذا تفضل الشيخ بمنحه إياها. بل إننا نجد أن نفحات هؤلاء الأولياء لها سر عظيم كما يصوره الفكر الصوفي.
فهذا الشعراني يرى أن التوفيق والتسديد - حتى فيما يكتبه من المؤلفات - لا يكونان حليفه إلا إذا منَّ عليه بهما شيخه علي الخواص فيقول في آخر أحد كتبه: " فما فيه من صحة وصواب فمن نفحاته رضي الله عنه، وما كان من خطأ وتحريف فهو مني والتبعة علي في ذلك دنيا وأخرى " (راجع الجواهر والدرر ص105 - 106).
فلو لم يعتقد أن شيخه أثر في هداية القلوب لم يكن ليقول مثل هذا الكلام في حق شخص أمي ليس له نصيب من علم الكتاب والسنة إلا ما يقوله برأيه ويتصوره بخياله، والله المستعان.
أما في مجال التعليم فقد انفردوا بوسائل تعليمية لا أظن أن أحداً سمع بها أو عثر على أثر لها خارج بطون كتب التراث الصوفي. فقد ذكر الشعراني في ترجمة الشيخ مدين الأشموني: " أن شخصاً طاعناً في السن جاءه وقال: يا سيدي مقصودي أن أحفظ القرآن في مدة يسيرة. فقال له: ادخل هذه الخلوة، فدخلها ليلاً فلما أصبح حفظ القرآن كله " (ط. ك [2/ 91]).
وكون هذا الأمر مختلقاً لقصد الإشادة بقدرات الأولياء من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى أي تعليق.
ونظيره ما ذكر الشعراني في ترجمة الشيخ عثمان مرزوق (أحد أكابر المشايخ الصوفيين) فقال: " وكان الرجل العربي إذا اشتهى أن يتكلم بالعجمية، أو العجمي يريد أن يتكلم بالعربية يتفل في فمه فيصير يعرف تلك اللغة كأنها لغته الأصلية " (ط. ك [1/ 129]).
أقول: أما المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم فقد أمر زيد بن ثابت أن يتعلم لغة اليهود وخطهم، حين هاجر إلى المدينة النبوية واشتدت حاجة المسلمين إلى معرفة هذه اللغة، فتعلمه زيد بالوسائل التعليمية المعروفة ولم يتفل عليه الصلاة والسلام في فمه، كما يزعم هؤلاء لأوليائهم.
رابعاً: القدرة على سلب الإيمان
وينبغي أن ندلل هنا لما أشرنا سابقاً من أن هؤلاء يعتقدون أن الأولياء كما يقدرون على هداية الناس هداية التوفيق، كذلك يقدرون على سلبهم الإيمان إذا أرادوا ذلك.
سأل أحمد بن المبارك شيخه الدباغ: " إذا حضر الغوث فهل يقدر أحد على مخالفته؟ فقال: لا يقدر أحد أن يحرك شفته السفلى بالمخالفة فضلاً عن النطق بها، فإنه لو فعل ذلك لخاف على نفسه سلب الإيمان " (راجع الإبريز ص189). ويرى التجاني أنه: " لا أمن لأحد من السلب إلا قطب الأقطاب وحده، أو لمن عند الاسم الأعظم فقط، أو لمن ضمنه شيخ كامل " (جواهر المعاني [2/ 70]).
هذه بعض نظرياتهم في قدرة الأولياء على إضلال من شاءوا أو سلبه الإيمان كما حلا لهم أن يطلقوا عليه.
وإليك بعضاً من الصور التطبيقية التي تنص على وقوع سلب الأولياء الهداية من قلوب بعض العباد: بعد أن ذكر الدباغ أن أهل التصرف لهم القدرة على إهلاك الكفار، وأنه يحرم عليهم أن يقاتلوهم إلا بما جرت به العادة من ضرب بسيف وطعن برمح ونحو ذلك، حكى أن سفينة للمسلمين وكان فيها وليان من أولياء الله التقت مع سفينة للكفار فلما حمي القتال بينهم قام أحد الوليين - وكان صغيراً - فتصرف في السفينة فانطلقت النار في سفينة الكفرة ... فلما فعل ذلك الولي ما فعل سلبه الولي الآخر الذي كان معه - وكان أكبر منه - عقوبة على ما فعل " (راجع الإبريز ص193).
ويسهم الشعراني بنصيب وافر من القصص في هذا الصدد، فذكر أولاً أن أبا إسماعيل يوسف الأنباري استهزأ برجل اسمه أبو طرطور، فشكاه الأخير إلى السيد عبد العال - خليفة البدوي - وكلهم من أصحابه فقال له عبد العال: " لا تتشوش يا أبا طرطور نزعنا ما كان معه وأطفأنا اسمه وجعلنا الاسم لولده إسماعيل. فمن ذلك اليوم أنطفأ اسم السيد يوسف إلى يومنا هذا " (راجع ط. ك [1/ 157])؟
¥