ـ[أبو معاوية الأردني]ــــــــ[04 - 05 - 10, 01:54 م]ـ
قال الشيخ محمد شومان في كتابه "الندامة الكبرى" تحت (فصل في عذاب الخطباء الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم) بعد أن ذكر حديث أنس بن مالك رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله r:
" رَأيْتُ لَيْلَةَ أُسْريَ بي رِجالاً تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، فَقُلْتُ: مَنْ هؤلاءِ يَا جِبْريلُ؟ فَقَالَ: الخُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ، يَأمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الكِتَابَ؛ أفَلا يَعْقِلُونَ؟! " ([1]):
فتخيل نفسك في هذا العذاب يا من تعظ الناس وأنت غافل، وتنبه الخلق وأنت راقد؛ هلا بنفسك بدأت أولاً؟! ما هذا الحرص منك على نجاة الناس؟! تؤكد عليهم الموعظة وتكرر عليهم الزجر؛ أيُعقل أن تحرص على نجاتهم أكثر من نفسك؟! لا، إنه الحرص على الشرف والمنزلة عندهم، فتطلب بوعظك إياهم محمدتهم وتهرب من مذمتهم، فتأمرهم بالمعروف ولا تأتيه، وتنهاهم عن المنكر وتأتيه؛ فالجَنان والأركان ليس لها حظ من تأدية الأمر ولا اجتناب النهي، إنما الحظ للشفتين اللتين تشدقتا بالكلام والتهبتا برنين الخطابة، لم يتجاوزهما، من أجل ذا؛ فاستعد لقرضهما بمقاريض تلتهب ناراً.
وما أحسن تمثيل رسول الله r حال من يُعَلّم الناس وينسى نفسه، يقول:
"مَثَلُ العَالِمِ الَّذي يُعَلّمُ النَّاسَ الخَيْرَ وَيَنْسَى نَفْسَهُ، كَمَثَلِ السّراجِ يُضِيءُ للنَّاسِ وَيَحرِقُ نَفْسَهُ" ([2]).
وأنت يا طالب العلم، اطلب العلم لوجه الله تعالى، ونيل الزلفى لديه سبحانه، اطلبه لمعرفة الأمر فتؤديه، ومعرفة النهي فتجتنبه، ولا تجعل أول همك تعليم الناس وإظهار علمك لهم، لا تتعلم العلم لتباريَ به العلماء، ولا لتجادلَ به السفهاء، لا تتعلمه حرصاً على الجاه وتكثيراً للأتباع، بل تعلمه طلباً لرضا الله تعالى، وما عنده من الجاه والأجر والثواب.
ألم تسمع قول رسول الله r:
" مَنْ تَعَلَّمَ عِلْماً مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لا يَتَعَلَّمُهُ إلا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضاً مِنَ الدُّنْيَا؛ لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ"؛ يعني: ريحها ([3]).
وقوله r:
" لا تَعَلَّمُوا العِلْمَ لِتُباهُوا بِهِ العُلَمَاءَ، وَلا لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ، وَلا تَخَّيَرُوا بِهِ المَجَالِسَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَالنَّارُ النَّارُ" ([4]).
ثم عليك يا طالب العلم، أن تبدأ بعلم التوحيد، ومعرفة أسماء الرب جل وعلا وصفاته المجيدة، وما يستحقه من الإجلال والتعظيم، وإخلاص القصد، قبل أن تتعلم مصطلح الحديث وأصول الفقه.
أنا أعتقد أن من هجم على علم المصطلح وأصول الفقه، قبل أن ينظر في معاني أسماء الله تعالى وصفاته مثلاً، جاهل هو وأمثاله بطريق العلم، أو مراء يريد وجه الخلق.
فعليك أيها الموفق! أن تحرص أولاً على تحصيل الواجبات العينية؛ كالمحبة لله تعالى، والخوف منه، والرجاء له، والتوبة إليه، وغض البصر عن المحارم، وغير ذلك، وأن تعرف فقه الطهارة والصلاة، وسائر ما يجب عليك من حق الله تعالى وحق الخلق.
وأن تتعلم الأخلاق العظيمة؛ كالإخلاص والتواضع والإنصاف ونحوها، قبل أن تتعلم مصطلح الحديث، وأصول الفقه، وعلم النحو، وغيرها من الواجبات الكفائية.
وبالجملة؛ أن يكون همك زكاة نفسك بالتوحيد، والإخلاص، والاتباع، والمراقبة لله جل وعلا، والتوبة إليه، والوجل منه، والإخبات إليه، والذكر الكثير له سبحانه، وتدبر كلامه العظيم حرصاً على الهداية والنجاة في الآخرة، لا أن يكون همك الجاه عند الناس.
فإذا سلكت طريق التزكية هذه؛ استطعت أن تتعلم المصطلح والأصول لوجه الله تعالى، ونلت بتعلمها رفعة الدرجات في الآخرة.
وإذا سلكت طريق التزكية؛ لم تتكبر على الناس إذا كنت أعلم منهم، بل تتواضع لهم، وتشفق عليه، وتُعَلِّمهم من أجل الله تعالى.
فالأخلاقَ الأخلاق يا طلبة العلم، والخشيةَ الخشية من الله تعالى، والحذرَ الحذر من تحقير العلم بطلبه لغير الله تعالى، والعملَ العمل بما تتعلمون قبل أن يَحِل عليكم سخط الله تعالى.
فالعلم بدون خُلُق شَيْن، والعلم بدون خشية جهل، والعلم بدون إخلاص هباء، والعلم بدون عمل شقاء،) فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ (.
ولبعضهم:
يَا أيُّها الرَّجُلُ المُعَلِّمُ غَيْرَهُ هلا لِنَفْسِكَ كَانَ ذَا التَّعليِمُ
فَابْدأ بِنَفْسِكَ فَانْهَها عَنْ غِيِّها فَإنِ انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ
فَهُنَاكَ يُقْبَلُ مَا تَقُولُ وَيُقْتَدَى بالقول منك وينفع التعليم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
وليحيى بن معاذ:
مواعظ الواعظ لن تقبلا حتى يعيها نفسه أولاً
يا قوم من أظلم من واعظ قد خالف قاله في الملا
أظهر بين الناس إحسانه وبارز الرحمن لما خلا
وللصوري:
كم إلى كم أعدو إلى طلب العلم مجداً في جمع ذاك حفياً
طالباً منه كل نوع وفن وغريب ولست أعمل شيا
وإذا كان طالب العلم لا يعمل بالعلم كان عبداً شقيا
إنما تنفع العلوم لمن كان بها عاملاً وكان تقيا
ولابن المبارك:
وكيف قرت لأهل العلم أعينهم أو استلذوا لذيذ العيش أو هجعوا
والموت ينذرهم جهراً علانية لو كان للقوم أسماع لقد سمعوا
والنار ضاحية لا بد موردهم وليس يدرون من ينجو ومن يقع
لينفع العلم قبل الموت عالمه قد سال قوم بها الرجعى فما رجعوا
*****
(1) أخرجه ابن حبان في "صحيحه " (35 - موارد) وغيره، وصححه الألباني لطرقه الكثيرة في "الصحيحة" (1/ 524).
(2) أخرجه الخطيب في "اقتضاء العلم العمل" (رقم 70) وغيره، وقال الألباني تحته: "حديث صحيح".
(3) أخرجه أبو داود (3664)، وابن ماجه (252)، وابن حبان (89 – موارد)، والحاكم (1/ 85)، وقال:"صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي.
(1) أخرجه ابن ماجه (254) وغيره عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وصحح إسناده الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء" (1/ 59).
وأخرجه أيضاً بنحوه (253) عن ابن عمر، و (259) عن حذيفة، و (260) عن أبي هريرة رضي الله عنهم.
¥