ثالثها: العمق، يقول الجوهري: "يقال سمّي بحراً لعمقه واتساعه"، (الزنجاني ـ ابن منظور ـ الزبيدي).
رابعها: الملوحة، ينقل ابن منظور عن ابن برّي قوله: "وسمّي بحراً لملوحته"، (الزبيدي).
خامسها: الشق، يقول الأزهري: "سمي البحر بحراً لأنه شقّ في الأرض شَقَّاً، وجعل ذلك الشق لمائه قراراً، والبحر في كلام العرب الشق، ومنه قيل للناقة التي كانوا يشقُّون في أذنها شقاً بحيرة". (ابن منظور ـ الزبيدي).
هذه هي التعليلات الخمسة التي ذكرها اللغويون الأوائل ونقلها عنهم المتأخرون من دون كبير تمحيص أو تدقيق أو مراجعة سوى الفيروز آبادي الذي يتفرّد برأيه النافذ وإشارته المضيئّة فلم يذكر في القاموس المحيط سبب تسمية البحر، ولم يعلّل ذلك بل على العكس تماماً، فإنه ـ كما يتراءى لي من استقراء كلامه ـ يرى أن هذه التعليلات إن هي إلا معان مجازية مستنبطة منه طارئة عليه، وذلك فيما نقله الزبيدي في تاج العروس عن الفيروز آبادي في كتابه البصائر، يقول: "وقال المصنف في البصائر:"وأصل البحر مكان واسع جامع للماء (4)، الكثير، ثم اعتبر تارة سعته المكانية فيقال: بحرت كذا: وسَّعته سعة البحر، تشبيهاً به: ومنه: بحرت البعير: شققت أذنه شقاً واسعاً، ومنه البحيرة. وسموا كل متوسّع في شيء بحراً فالرجل المتوسّع في علمه بحر، والفرس المتوسّع في جريه بحر. واعتبر من البحر تارة ملوحته فقيل: ماء بحر، أي ملح، وقد بحر الماء". (5).
ولست أود الخوض في قضية نشوء اللغة وكيفية وقوع الدال على المدلول فلا طائل تحتها، غير أني أود القول إنه ليس ثمة من علاقة حقيقية بين الدال والمدلول كما أشار عبد القاهر الجرجاني في قوله إن "نظم الحروف هو تواليها في النطق، وليس نظمها بمقتضى عن معنى .. فلو أن واضع اللغة كان قد قال ربض مكان ضرب لماكان في ذلك مايؤدي إلى فساد" (6)، وكما توصل إليه حديثاً عالم اللغة السويسري دي سوسير الذي يؤكد أن "الرابط الذي يجمع بين الدال والمدلول رابط اعتباطي" (7). وإن وجدت فهي المصادفة وإن أوجدت فهي ضرب من الفلسفة اللغوية التي تحتمل الرجحان1. وهذا المسطّح المائي يسمى في العربية بحراً وفي الإنكليزية SEA وفي الفرنسية MER.
3 ـ جمعه وتصغيره:
يجمع البحر على "أبحر وبحور وبحار"، الجوهري ـ ابن سيده ـ ابن منظور الفيومي ـ الفيروز آبادي ـ الزبيدي).
ويصغر على أُبَيْحِر" ويجوز أن يصغّر على القياس "بُحَيْر"، وإن كان قليلاً (التاج). (8).
4 ـ دراسة في معاني الجذر "بحر":
لقد لفت انتباهي في أثناء استقرائي مادة بحر في المعاجم اللغوية أن ابن فارس في معجمه مقاييس اللغة يتفرد من بين اللغويين: "إذ يرى مفردات كل مادة من مواد اللغة إلى أصولها المعنوية المشتركة" (9)، وهو في الجذر "بحر"، يرجع أغلب مفرداته، المتشابهة والمجازية والمختلفة والمتناقضة أحياناً إلى أصلين هما الاتساع والداء، وهما يرجعان بمعناهما إلى البحر وصفاته.
وباستقراء جميع مفردات مادة بحر في سائر المعاجم تبدي لي أنها تنقسم ثلاثة أقسام:
القسم الأول: المفردات ذات الاتصال بالبحر بدلالته المشهورة:
(بحر: فزع من البحر ـ البحار ـ البحيرة ـ تاجر بحري ـ بنات بحر: السحب).
القسم الثاني: المفردات ذات الاتصال المجازي بالبحر:
(الملوحة ـ الاتساع، الاتساع في الأشياء عامة، الرجل الكريم ـ الفرس الكثير العدو).
القسم الثالث: سائر المفردات:
كانت تلك هي المفردات المتصلة بالبحر أو المشتقة منه، والمفردات التي كان فيها المجاز واضحاً، ولم يزل ثمة الكثير من المفردات التي يصعب ردها إلى أصل أو أصلين وسأكتفي ـ هنا ـ بعرض معانيها وهي: (السل ـ العطش ـ الاصفرار ـ احمرار الأنف ـ دم الجوف أو عمق الرحم (10) ـ الأحمق ـ الكذاب ـ الفضولي ـ الفجوة ـ الشق ـ البروز بلا حجاب ـ المصادفة ـ المكان الواسع ـ القرية أو المدينة ـ الروضة ـ عظم البطن ـ المنخفض من الأرض ـ الضعف ـ الاستخبار ـ الناقة الصفية ـ شجر شائك ـ القمر ـ صنم ـ الحر ـ تغير العليل).
ويتبين من هذه الخلاصة اللغوية المكثفة تعذر انضمام سائر هذه المفردات إلى جذر أو اصل واحد أو أصلين اثنين كما ذكر ابن فارس.
¥