قمت فيما سبق بمحاولة اكتناه معاني الجذر بحر، ومعاني تقاليبه، وما أقوم به هنا، هو محاولة اكتناه هذا الجذر نفسه بعد تشريحه وتحليله إلى وحداته الأصلية، وستقتصر الدراسة على جانبين اثنين هما: صفات أحرف هذا الجذر ومخارجها.
أولاً: صفات أحرف الجذر بحر:
في البدء لابد لي من أن أنوه بسبق علماء اللغة العربية في هذا النوع من الدرس اللغوي وأن أشيد بجهودهم الجبارة وبحوثهم المتميزة ونتائجهم القريبة مما توصل إليه علماء اللغة المحدثون بأجهزتهم الحديثة ومختبراتهم الصوتية.
وأذكر هنا انطباق صفات أحرف الجذر "بحر" ومخارجه التي ذكرها علماؤنا القدامى مع نتائج تحليل العلماء المحدثين لها. ومن صفات هذه الأحرف:
آ ـ الباء: الجهر والشدة.
ب ـ الحاء: الهمس والرخاوة.
ج ـ الراء: الجهر والشدة، أو كما ذكر ابن جني: أنها "بين بين"، والتكرار (15).
وإذا تركنا دلالة هذه الصفات الاصطلاحية وانطلقنا من دلالتها اللغوية فإننا واجدون توافقاً مدهشاً لهذه الصفات، مع صفات البحر وتصور العرب له، ففي هذا الجذر حرفان مجهوران بينهما حرف مهموس أي أن الصوت يرتفع ثم ينخفض ثم يرتفع مرة أخرى، وكذلك صوت الموج إذ يبدأ بصوت مرتفع ثم ينخفض هنيهة ثم يرتفع مرة أخرى في جزره، مواكباً حركة الموج.
وفي هذا الجذر أيضاً حرفان شديدان يتوسطهما حرف رخو، وهذا يعني أن معنى الشدة والصعوبة ضعف معنى السهولة والرخاوة، فهو يدل دلالة خفية على رجحان معنى صعوبة ركوب البحر على سهولته أي يدل على رجحان هيبة العرب أمام هذا المخلوق العجيب على الاطمئنان منه، وهذا يطابق نظرة العرب القدامى إلى البحر من أن هوله وشدته وهيجه أكثر من سهولته وهدوئه ويمكن برهان ذلك على ثلاثة مستويات: المستوى اللغوي والمستوى الشعري والمستوى التاريخي والإخباري، فالجذور الدالة على اضطراب البحر أضعاف الجذور الدالة على هدوئه، وصورة البحر الهائج المخيف هي الغالبة في صور البحر الشعرية وكذلك أكثر الأخبار والأحداث التاريخية.
وأما صفة التكرار فسوف أتركها للتحليل القادم.
ثانياً: مخارج أحرف الجذر "بحر":
"قال الخليل: فأقصى الحروف كلها العين ثم الحاء ولولا بحة في الحاء لأشبهت العين لقرب مخرجها من العين ... فالعين والحاء والخاء والعين حلقية لأن مبدأها من الحلق ... والراء واللام والنون ذلقية لأن مبدأها من ذلق اللسان وهو تحديد طرفي ذلق اللسان، والفاء والباء والميم شفوية وقال مرة شفهية لأن مبدأها من الشفة". (16).
وقد خالف سيبويه ترتيب الخليل في بعض الأحرف تبعه ابن جني وأغلب من جاء بعده، وقد نال حرف الحاء هذا الاختلاف في الترتيب من أحرف الجذر بحر إذ جعله سيبويه الخامس من نهاية المدرج الصوتي: الهمزة والألف والهاء والعين والحاء ... أي أنه جعل مخرجه وسط الحلق لا من أقصاه (17)، ويمكن ترتيب مخارج هذه الأحرف على النحو الآتي:
آ ـ الباء: حرف شفوي.
ب ـ الحاء حرف من أواسط الحلق.
ج ـ الراء: حرف ذلقي.
وبسبر هذه الأحرف والاكتناه المتعمق فيها تراءت للباحث هذه النتائج، فالباء حرف مخرجه من بداية المجرد الصوتي والحاء حرف من أواسط الحلق يشتم منه رائحة العمق بل هو كما ذكر الخليل ـ من أ عمق الحروف مخرجاً، وكذلك البحر ففي بدايته يكون ضحضاحاً قليل الماء ومن ثم يزداد عمقه ويكون أعمق ما يكون في وسطه ويأتي الراء هذا الحرف التكراري الذي "لو لم يكرر لم يجر الصوت فيه" (18)، ليذكِّر بحركة الموج الدائبة إلى الأبد أو ليس البحر قلب الحياة النابض؟ ..
ومن ناحية أخرى، الباء أول الحروف مخرجاً والحاء من أواخر الحروف مخرجاً وتشبه إحاطة هذين الحرفين بأغلب الحروف بإحاطة البحر باليابسة ثم يأتي حرف الراء من وسط هذا المجرد الصوتي كما يأتي الموج من أواسط البحر ليظل متحركاً مستمراً حتى ينكسر على الشاطئ.
7 ـ البحر في الاصطلاح:
يطلق لفظ "بحر" في اصطلاح العروضيين على الوزن الذي ينظم عليه الشعر، وهو اختراع الخليل بن أحمد الفراهيدي، بيد أن هذا المصطلح على قدمه لم يرد في معاجم اللغة وأغفلته أغلب كتب الاصطلاحات فلم أجده إلا في كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي يقول: ـ"وفي اصطلاح العروضيين هو الكلام الموزون المقفى الذي يشمل على نوع الشعر ... ويطلق على وزن الشعر بحر أيضاً لأنه كالأصل للفروع ... ". (19).
*الحواشي:
¥