فما يكون عليه الأفراد على سبيل المثال - من حشمةٍ وأدبٍ في شئونهم ومعاملاتهم وعلاقاتهم بعضهم ببعض ينعكس صداه في لغتهم، فاللاتينيون مثلاً ([6]) يعبرون عن العورات والأمور المستهجنة والأعمال الواجب سترها بعباراتٍ صريحة ومكشوفةٍ، على حين أنَّ العرب تتلمسُ أحسنَ الحيلِ وأدناها إلى الحشمةِ والأدب في التعبير عن هذه الأمور وغيرها مماله آثارٌ نفسيةٌ فتلجأُ إلى التَّلَطُف في الكلام، فتبلغ غرضها بأسلوبٍ ألطفَ وأحسنَ من الكشفِ والتصريحِ ويعيبون على الرّجل إذا كان يكاشفُ في ذلك، ويقولون: ((فلانٌ لا يحسنُ التعريضَ إلا ثَلْبا)) ([7]) والتعريض خلافُ التصريحِ.
والعربُ تُعبرُ عن الأفعال التى تُستر عن العيونِ وتتأذّى منها النفوس بألفاظٍ تدل عليها غير موضوعةٍ لها، تنزهاً عن إيرادها على جهتها وتَحَرُّزاً عمّا وُضِع لأجلها إذ الحاجة إلى ستر أقوالهم كالحاجة إلى سترِ أفعالهم فيتحرزون عن التصريح بالتعريضِ فيكنون عن لفظه، إكراماً لأنفسهم عن التلفظ به ([8]).
وفي القرآن الكريم من التَّلَطُف في الأسلوب ما يدلُّ على كريم العبارات ونبيل الألفاظ، من نحو قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرثَكُمْ أَنَّى شِئتُمْ} ([9]) وقوله تعالى: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّساء} ([10])، وقولِهِ: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} ([11])، وقولِهِ: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةََ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} ([12])، وقوله: {فَتَحْرِيْرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسا} ([13]). وقد كنى القرآن الكريم عن العمليّة الجنسية (العلاقة بين الرجل والمرأة) بألفاظٍ كريمة هي: السّر والحرثُ، والملامسة، والإفضاءُ، والرفثُ، والدخول، وغيرها ([14]).
التَّلَطُف لغة واصطلاحا
التَّلَطُف في اللغة من مادةِ ((لطف)) والمادةُ كما يرى ابنُ فارس تدورُ حول معنىً عامٍ واحدٍ هو الترفقُ ([15]).
وفي التهذيب للأزهريّ: يروى عمروُ عن أبيه أنَّه قال: اللطيف: ((الذي يُوصِل إليك أَرَبك في رفق ... واللطيف من الكلام ما غَمُضَ معناه وخفي)) ([16])، وزاد في اللسان: والتَّلَطُف للأمر: الترفق له ([17]). وفي أساس البلاغة للزمخشريّ: ((ومن المجاز ... وتلطفتُ بفلانٍ: احتلتُ له حتى اطّلعتُ على أسراره)) ([18]).
وفي معجم ألفاظ القرآن الكريم لمجمع اللغة العربية، والتَّلَطُف في قوله تعالى: {فَلَيَأتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ} ([19]) أىّ وليترفّق في الحصول على ما يريد ([20]).
ومما سبق يتضح لنا أنّ التَّلَطُف في اللغةِ يعني الترفق، غيرَ أنّه ترفقٌ لا يعدم الحيلة والفطنة والذكاء.
وقد فطن القدماء من علماء العربية لهذه الظاهرة ودرسوها تحت مباحث الكناية وأنواعها ودوافعها، واستعملوا بعض المصطلحات المتصلة بها مثل: تحسين اللفظ، وتلطيف المعنى، والكنايات اللطيفة، والتعريض، يقول المبرد:
((ويكون من الكناية - وذاك أحسنها - الرغبة عن اللفظ الخسيس المفحش إلى ما يدل على معناه من غيره. قال الله عزوجل:
{أُحِلَّ لكم ليلةَ الصّيامِ الرَّفَثُ إلى نِسَائِكم} ([21])، وقالَ جلّ ثناؤه: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء} ([22]) ... ومن ذلك قولهم:
جاء فلان من الغائِط، كناية عن الحدث، وإنما الغائط الوادي، قال عمرو بن مَعْدِي كَرِب:
وكم من غائِطٍ من دون سلمى قليل الإنس ليس به كَتِيعُ)) ([23])
ويقول ابن فارس تحت باب الكناية:
((الكناية لها بابان: أحدهما: أن يُكْنى عن الشيء فيذكر بغير اسمه تحسيناً للفظ، أو إكراماً للمذكور، وذلك كقوله جلّ ثناؤه: {وَقَالوا لِجُلُودِهِمْ: لِمَ شَهِدّتم عَلَيْنَا؟} ([24]) قالوا إن الجلود في هذا الموضع كناية عن آراب الإنسان. وكذلك قوله جل ثناؤه: {وَلَكِنْ لاتُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} ([25]) … كل هذا تحسين اللفظ. والكناية التى للتبجيل قولهم: ((أبو فلان)) صيانة لاسمه عن الابتذال. . .)) ([26]).
وقد عقد الثعالبي في كتابه ((فقه اللغة وسر العربية)) لها فصلاً أسماه: فصل في الكناية عما يستقبح ذكره بما يستحسن لفظه ومن أمثلته التى ذكرها ([27])، قوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} ([28]).
¥