وقول النبي - e - لقائد الإبل التى عليها نساؤه: ((رفقاً بالقوارير)). بل إنه أفرد هذه الظاهرة بكتاب أسماه: ((الكناية والتعريض)) قال في وصفه:
إنه كتاب خفيف الحجم، ثقيل الوزن، صغير الجرم، كبير الغنم، في الكنايات عمّا يستهجن ذكره، ويستقبح نشره ... بألفاظ مقبولة تؤدي المعنى، وتفصح عن المغزى، وتحسن القبيح، وتلطف الكثيف ([29]).
وممن أفرد هذه الظاهرة بالتأليف القاضى أبوالعباس أحمد بن محمد الجرجاني (ت482هـ) بكتاب أسماه: ((المنتخب من كنايات الأدباء وإرشادات البلغاء))
ذكر من فوائده، التحرز عن ذكر الفواحش السخيفة بالكنايات اللطيفة مستشهداً على ذلك بقوله تعالى: {وإِذَا مرُّوا باللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} ([30]). . . أي كنوا عن لفظه، ولم يوردوه، فإنهم أكرموا أنفسهم عن التلفظ به، كما روى عن بنت أعرابي صرخت صرخة عظيمة، فقال لها أبوها: مالك؟ قالت: لدغني عقرب. قال لها أين؟ قالت: في الموضع الذي لا يضع فيه الراقى أنفه. وكانت اللدغة في إحدى سوأتيها، فتنزهت بذكرها عن لفظها ([31]).
وسيأتي الحديث عن الكتابين السابقين بشيء من التفصيل في موضعهما من هذا البحث إن شاء الله ([32]).
أمّا التَّلَطُف بالمعنى الاصطلاحي فقد عُرِف في الدراسات الغربية الحديثة بمصطلح يوناني ( Euphemism ) تعنى الدلالةُ الحرفيةُ له الكلامَ الحسن ( Well speaking)([33]).
وقد تُرْجِمَ هذا المصطلح في العربية بألفاظٍ مختلفةٍ، فهو عند الدكتور كمال بشر
((حسنُ التعبير)) ([34])، وعند الدكتور كريم زكي ((تحسينُ اللفظ)) ([35])، وعند الدكتور أحمد مختار ((التَّلَطُف)) ([36]). وعند الدكتور محمد علي الخولي ((لطف التعبير)) ([37]).
وقد عرّفه أولمان بأنه: وسيلة مقنعة بارعةٌ لتلطيفِ الكلامِ وتخفيفِ وقعه ([38]). وعرّفه أحمد مختار بأنه: إبدال الكلمةِ الحادةِ بكلمةٍ أقل حِدّةٍ أو أكثرَّ قبولاً ([39]). وعرّفه محمد علي الخولي: بأنه استبدال تعبير غير سار بآخر أكثر مقبولية منه ([40]).
ويُعَدُّ هذا الأسلوبُ الوجهَ المشرق لظاهرةِ اللامِسَاسِ أو المحظوراتِ اللغوية، حيث يرى بعض علماء اللغة المحدثين أنَّ استبدال الكلماتِ اللطيفةِ الخالية مِن أىِّ مغزى سيءٍ أو مخيفٍ بكلمات اللامساسِ أو المحظورات اللغوية يُعَدُّ ضرباً من ضروب التَّلَطُف أو حسن التعبير أو تحسين اللفظ ([41]).
مواقف التَّلَطُف في الكلام
يعمد المتكلمُ إلى هذا الأسلوب في موقفين:
أحدهما: فرديٌّ حيث يعمد المتكلمُ إلى التَّلَطُف في موقفٍ خاصٍ، وذلك لايتأتى لكل أفراد المجتمع، بل هو من خصائصِ ذوي الفطنة، وسرعةِ البديهةِ والذكاءِ، وقد أشار القدماءُ من علماء العربية إلى هذا الموقف وحاولوا علاجَه تحت بابِ ما أَسْمَوْهُ: ((التخلصُ من الكذب بالتورية عنه)) مستشهدين على ذلك بما روي عن النبي (( e)) : (( إنَّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب)).
ومن أمثلة ذلك ما يُروى من أنَّ الخليفةَ المنصورَ كان في بستانٍ ومعه الربيع، فقال له: ما هذه الشجرةُ؟ قال الربيع: شجرةُ الوِفاق يا أمير المؤمنين، وكان اسم تلك الشجرةِ شجرةَ الخلافِ، فتفاءلَ المنصورُ بذلك وعَجِبَ من ذكائه ([42]).
ومن ذلك مارُوى عن الخليفة المأمون أنه كان بيده مساويك، فسأل الحسنَ بنَ سهلٍ ما هذه؟ فقال: ضدُّ محاسنك يا أميرَ المؤمنين، وكره أن يقولَ مساويك ([43]).
ويبدو أنَّ هذا الموقفَ هو الذى أوحى لابنِ دريدٍ بفكرةِ تأليفِ كتابهِ ((الملاحن)) حيثُ إنَّ الفكرةَ الأساسيةَ التى يقوم عليها الكتابُ هي استخدامُ اللفظِ المشتركِ على سبيلِ التوريةِ لمعانٍ أخرى خلاف ماهو ظاهرٌ، أو كما قال عنه مؤلفه:
((هذا كتابٌ ألفناه ليفزعَ إليه المجبرُ المضطهدُ على اليمينَ المكره عليها، فيعارضُ بما رسمناه، ويضمرُ خِلافَ ما يُظهرُ ليسلمَ من عادية الظالم ... )) ([44]).
ويشتمل الكتابُ على خمس وسبعينَ ومائةِ يمينٍ تقريباً، بعضها اشتمل على لفظٍ واحد، كقوله:
((واللهِ ما سألتُ فلاناً حاجةً قط)) والحاجةُ الضربُ من الشجر له شوكُ، والجمع حاج ... )) ([45]).
وبعضها اشتمل على أكثر من لفظٍ، كقوله:
¥