وقوله في الكناية عن طالب ذلك حكايةً عن يوسفَ عليه السلام: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نّفْسِي} ([60]).
ويقول الجرجانيُّ ([61]):
((وتقول العربُ: في الكنايةِ عن دخول الإنسان بأهله: بنى فلانٌ على أهله، وأصلُه أنَّ كلَّ من أراد الزّفافَ بنى على زوجتهِ قبةً، فقيل لكل داخل بانٍ)).
وفي الكنايةِ عن الختانِ، يقولُ الثعالبيُّ:
((ويكنى عن الختان بالطهر والتطهير)). ويقول: ((ومن لطائف الأَطِبَاءِ كِنَايَتهُمْ عن حشوِ الأمعاءِ بالطبيعةِ وعن البولِ بالماءِ، وعن القيء بالتعالج ... )) ([62]).
ويقول في الكنايةِ عن بعض الصفاتِ الخَلْقِيةِ والخُلُقيَّة، ويكنى عن الأعمى بالمحجوبِ، وعن الأعورِ بالممتعِ وعن البخيلِ بالمقتصد ([63]).
وفي الكناية عن القتل والموت، يقول الثعالبيُّ ([64]):
وتقول العرب في الكناية عن الموت: استأثر اللهُ به، أسعده اللهُ بجواره، نقله اللهُ إلى دار رضوانه، اختاره الله ويقول الجرجانيُّ ([65]):
ومن ذلك قولُهم لحق فلان باللطيف الخبير، ولعق فلانٌ اصبعه، واستوفى أكله، واصفرت أناملهُ، ومضى لسبيله وَدُعِيَ فأجاب، وَقَضَى نحبه، والنحب النذر.
ويقول الجرجانيُّ ([66]):
((واعلم أنَّ العربَ كما يكنون عن الموت تطيراً من ذكره، كذلك يكنون عن القتل، فيقولون: ركب فلانٌ الأغرَّ الأشقَر إذا قُتل، ويكنى عن قتل الملوك خاصة بالمشعرة، إذ كانوا يكبرون أن يقولوا قُتِل، فيقولون أشعر من إشعار البدن)).
ويقول الثعالبيُّ في الكناية عمّا يُتطيرُ من لفظه:
((يكنى عن اللديغ بالسليم، وعن الأعمى بالبصير، وعن المهلكةِ بالمفازة)) ([67]).
ويقول الجرجانيُّ:
وأعلم أنّ العربَ تتطير من ذكر البرصِ، فتكنى عنه بالوضحِ، ومنه سُمِّيَ جذيمةُ الوضاحُ.
ويقولُ: ومما يُتَفَاءَل بذكره قولُهُمْ للفلاةِ مفازةٌ؛ لأن القفارَ في ركوبها الهلاكُ فكان حقُها أن تسمّى مَهْلَكَةً ولكنهم أحسنوا لفظها تطيراً بها، وعكسوه تفاؤلاً، ومن ذلك تسمية اللديغ سليماً والأعور ممتعاً تطيراً من ذكر العور ([68]).
دوافع التَّلَطُف وأسبابه
يرى أولمان أنّ دوافع التَّلَطُف (حسن التعبير) دوافعٌ نفسيّةٌ، وأنَّ المتكلمَ يعمد إلى استعمالِ هذا الأسلوبِ مع كلِّ شيءٍ مقدسٍ أوذى خطرٍ، أو مثيرٍ للرعب والخوفِ، كما يطبقه على الأشياءِ الشائنةِ، أو غيرِ المقبولةِ لدى النفس ([69]).
وَيُجْمِل بعضُ اللغويين المعاصرين هذه الدوافعَ في ثلاثةٍ هي: الخوفُ والفزعُ، الكياسةُ والتأدبُ، الخجلُ والاحتشامُ ([70])
وما قاله أولمان وغيرُه، نلحظه عند القدماءِ من علماء العربيةِ ممن اهتموا بهذا الأسلوب، كالثعالبيِّ والجرجانيِّ – على سبيل المثال – حيث أشار كلّ منهما في مقدمة تأليفه إلى أبرز هذه الدوافع وهي:
التَحرزُ عن ذكرِ الفواحشِ السخيفةِ بالكنايات اللطيفةِ التى تفصحُ عن المغزى، وتحسِّنُ القبيحَ، وتلطّفُ الكثيفَ فيحصل المرادُ، وَيلَوُحُ النجاحُ، مع العدولِ عمّا ينبوُ عنه السمعُ، ولا يأنسُ به الطبعُ إلى ما يقومُ مقامَهُ، وينوبُ منابَه من كلامٍ تأذنُ له الأذنُ، ولا يحجبه القلبُ، وما ذلك إلا من البيان في النفوسِ وخصائصِ البلاغةِ، ولطائفِ الصناعةِ ([71]).
ونستطيع القولَ بأنَّ أبرز دوافع التَّلَطُف، وأسبابه لدى الجماعة اللغوية، ما يلي:
أولاً: الكياسةُ والتأدبُ والاحتشامُ:
ويعد مجالُ المرأة وعلاقتها بالرجل وما يتصلُ بذلك من أحوالٍ أو أفعالٍ أو أعضاءٍ أبرز وأكبرَ المجالات التى تدفعُ المتكلمُ إلى التَّلَطُف بشأنها، إذ التَّلَطُف في هذا المجال من باب التحرز عن ذكر هذه الألفاظ أو التصريح بها، فيعدل المتكلم إلى الكناية، وهي مطلوبةٌ مستحبةٌ ليس في العربية فحسب بل في معظم اللغاتِ، لأن كلماتِ هذا المجالِ مفضوحةٌ ينفر منها الناس ([72]).
وقد سبقت الإشارة إلى تعليلِ الجرجانيُّ لكثرةِ الكناياتِ عن المرأة عند العرب، وأنّها من باب التذمم من التصريح باسم المرأة. كما هو الحال في وقتنا الحاضر.
وفيما يتعلق بهذا المجال يقول أحدُ المحدثين من علماء العربية:
¥