وكان قد لفت نظري ورودَ جُملةٍ في كتاب ((فقه اللغة)) للثعالبيِّ هي: ((لعل أسماءَ النكاح تبلغُ مائة كلمةٍ عن ثقاتِ الأئمةِ بعضُها أصليٌّ، وبعضُها مَكْنيٌ)) وكنت في أثناء قراءاتي المتكررة للقاموس المحيط للفيروز آبادي، أستغرب كثرة الألفاظِ الجنسيةِ، حتى خُيِّل إلىّ أنَّه لا تخلو مادةٌ من موادِ المعجم العربيّ من لفظٍ جنسيّ دالٍ على اسمٍ أو فعلٍ أو حالٍ لذلك الجانبِ من حياة البشر وحياة الحيوان، ثم يستطرد قائلاً:
وعددتُ أنا الألفاظ المتعلقةَ بهذا المدركِ في القاموسِ فوجدتُها تزيدُ على ألفٍ ومائتين ... وحاولت تعليلاً لهذه الكثرة .. فبان لي أن جانباً كبيراً منها من باب الكناية ... حيث كان العربيُّ يَكْنى به عن المدرك الجنسيّ بلفظٍ ... فإذا اشتهر هذا اللفظُ ودلَّ على ماكان يُكْنى عنه صراحةً استحيا العربيُّ من الاستمرارِ في استعمالِه فانتقلَ إلى كنايةٍ جديدةٍ
غامضةٍ)) ([73]).
ثانياً: التفاؤل والتشاؤم:
حيثُ يُعَدُّ من أبرزِ دوافعِ التَّلَطُف في اللغاتِ، ويشملُ كلَ الكناياتِ الخاصةِ بالمجالاتِ التى نستبينُ منها الضعف الإنسانيَّ كالموتِ والمرضِ وأسماءِ بعضِ الحيواناتِ، والجنِ، والسوامّ، ونحوِها مما يلعب التفاؤلُ والتشاؤمُ فيها دوراً كبيراً، فهي مجالاتٌ تثير ألفاظُها الخوفَ والهلعَ في نفوسِ البشر وينفرون من سماعها، ويتفادون ذِكْرَها، فِراراً مما تبعثه في الأذهانِ من آلام.
وسرُّ التَّلَطُف في هذا المجالِ، هو ما استقر في أذهانِ الناسِ منذ القدمِ من الربط بين اللفظِ ومدلولهِ ربطاً وثيقاً حتى إنّه يُعتقدُ أنّ مجردَ ذكرِ الموتِ يستحضرُ الموتِ، وأنّ النطق بلفظٍ الحيةِ يدعوها من جحرها فتنهشُ من ناداها أو ذكرَ اسمَهَا ([74]).
ولعل هذا يفسر لنا تعددَ مسمياتِ بعضِ الألفاظِ المترادفةِ في العربيةِ كلفظ الداهيةِ التي قال عنها حمزة الأصفهانيُّ: ((إنَّ تكاثرَ أسماءِ الدواهي من إحدى الدواهي)) ([75]).
ثالثاً: التبجيل والتعظيم:
حيث يعدُّ التبجيلُ والتعظيمُ في العربية من أبرزِ دوافع التَّلَطُف، ويشمل الكناياتِ الخاصةَ بالمجالاتِ التى نستبينُ منها التبجيل الإنسانيَ للأشياءِ ويدخل في هذا المجالِ الهيبةُ والاحترام والولوعُ بالشيءِ وحبه.
ومن أمثلةِ ذلك: إطلاقُ لفظِ الأَبِ على العمِ، وإطلاقُ لفظ الأمِّ على الخالةِ، ونحو ذلك ([76]).
ولعل هذا يفسر لنا - أيضاً - تعدد مسمياتِ بعضِ الألفاظِ المترادفةِ في العربية، كلفظِ الحبِّ الذى ذكروا له ستين اسماً ([77])، ولفظِ العسَلِ الذى ذكروا له ثمانين اسماً ([78])، ونحو ذلك.
إنّ ماتدل عليه هذه الألفاظُ لا يُعدُّ في حقيقته مصدرَ استهجانٍ لدى المجتمع كما هو الحالُ في مجال العلاقة بين الرجل والمرأة وما يتصل بذلك، كما أنّه لايعدّ مصدرَ ضعفٍ لدى الجماعة اللغوية كألفاظ الموتِ والمرضِ ونحوها، بل إنَّها أسماء نابعة من شدةِ ولوعِ المجتمعِ العربيّ بما تدل عليه هذه الألفاظُ وما ذاك التعددُ لمسمياتها إلا لتعلق القلوب بها وتبجيلها.
وتفسير ذلك أن اللفظَ إذا شاع استعمالُه في الدلالةِ على هذه المعاني فقد تأثيرهُ، ففقد قيمتَه الدلالية التعبيريةَ، من أجل ذلك كان العربيُّ ينتقلُ باللفظ من مجازٍ أصبح مألوفاً ضعيف التأثيرِ إلى مجازٍ جديدٍ أحسنَ وقعاً في النفس وأكثرَ أثراً ([79])، على عكس ما حدث في الألفاظِ المستهجنةِ ونحوها.
وسائل التَّلَطُف في الكلام
بيَّنا فيما سبق دوافع التَّلَطُف وأسبابه في الكلام، والمواقفَ التى تفرض على المتكلمِ التَّلَطُف بشأنها، أما عن الوسائلِ التى يقصدها المتكلمُ حالَ تلطفه، فأهمها:
أولاً: الاستعمال المجازيُّ:
يعدّ المجاز من أهم الوسائلِ التي يتوسل بها المتكلمُ للتعبير عن المعاني المحظورةِ أو المقدسةِ لديه، فيعمدُ إلى الكنايةِ أو التوريةِ أو التعريضِ ونحوِها يقول الجرجانيُّ:
¥