وما كدتُ أتنسّم من عبيرها، وعبق أريجها، ودفء جوارها ..... حتى قالوا: حان موعد العودة، وانتهت الرحلة! أقسمتُ لهم إنْ هي إلا لحظات، مرّتْ كمرور النسمات .. ولم تنته أيامنا بعدُ! رجوتهم أن يتركوني بجوارها، ويأخذوا (جواز سفري)، ويقولوا لأهلي وللجامعة: فلان قد مات! لكن .. لم يوافقوا ............... بكيتُ دماً لا دموعاً .. ، ذرفتُ دمع قلبي مدراراً، وأجريتُ حُزن شراييني أنهارأً ... و .. أرغموني على الرحيل .. .. أيُّ جُرح في فؤادي اليوم غائر؟! أيُّ دمعٍ في بحار الحُزن هادر؟! أيُّ شيءٍ بعد فراقها يُشاطر؟! آهٍ من ألم الفراق، ولوعة الاشتياق ... يا رقّة الندى، وقطر الندى .... يا هَبّة الأنسام، وسِحْر الأيام ... والله لولاهم ما تركتكِ، ولا غادرتُ فضاءكِ! ورحلتُ .... سافرتُ إليها بروح وجسد .. ، وعدتُ من عندها بجسد بلا روح؛ فقد تركتُ روحي وديعة عندها ... ؛ لعلّي أعود إليها يوماً.
سنة كاملة مرّتْ عليّ بعد هذه الرحلة، كنت أعيش فيها لا كما يحيا الناس ... ، وصلتُ إلى السنة الثالثة في دراستي الجامعية؛ كان ذلك عام 1414هـ .. ، وفي إجازة نصف العام نظّم (اتحاد الطلاب) رحلة جديدة كرحلة العام الفائت، لكن بسعرٍ يزيد قليلاً عن سابقه. لم أفرح كثيراً مثل العام الماضي؛ إذ كنتُ أعلم يقيناً أنني لن أستطيع تدبير نفقات السفر لهذا العام .. ، بَيْد أنّي لم أترك اليأس يتسلل إلى نفسي الكسيرة، ثم تذكرتُ أنّ هناك جامعة في بلد (حبيبتي) تُعطي منحاً دراسية للطلاب في أنحاء العالم، وَفْق شروط ومقابلات، واختبارات خاصة.
كانت هذه هي بارقة الأمل التي تعلّقتُ بها، فاجتهدتُ أكثر من سابق عهدي في جمع المال، لكن ...... انتهتْ مدّة التسجيل والدفع وأنا لم أحصل على نصف المال المطلوب! فكنتُ كأسيرٍ قادوه للقتل، ثم عَفَوْا عنه ... وقبل أن ينعم بالعفو والفكاك أصدروا حُكماً آخر بقتله!
وبينما أنا أجلس في أروقة (كلية الآداب) التي أدرس فيها، إذ مرّ بي زميلٌ يبشرني أنّ مدّة التسجيل للرحلة قد مُدّدتْ، فأحيا هذا الخبرُ الأملَ في قلبي من جديد، واستأنفتُ سعيي لجمع بقية المال، حتى جاء آخر موعد للدفع دون أن أكمل المبلغ المتبقي.
ذهبتُ إلى (الجامعة) في هذا اليوم، وأنا لا أعرف بائساً من البُؤُس - جمع بائس؛ كذا في الصحيح - على وجه الأرض مثلي! ثمّ كانت المفاجأة ... ! لقد اختارتني (كلية الآداب) لأكون (الطالب المثالي) في هذا العام ... ، ليستْ هذه المفاجأة .. ! وإنما المفاجأة أنّ (الجامعة) ستدفع نصف قيمة الرحلة للطالب المثاليّ!!! وسقطتُ من عجائب الأقدار!!
لم يكن شعوري في رحلتي الثانية إلى بلد (حبيبتي) كنفس شعوري في رحلتي الأولى؛ إذ تضاعف شوقي وحنيني إليها أضعافاً مضاعفة عمّا كنتُ عليه قبل رؤيتها والقُرب منها، وليس العيان كالخبر!
ورأيتها ..... رأيتُ (حبيبتي) مرّة أخرى ... ، فكانت أحلى، وأبهى، وأجمل عمّا رأيتها من قبل .. ، وقضيتُ أياماً أنعم بقُربها، وأنهل من معينها، وتركتُ عينيَّ - واعذروني - تكتحل من حُسنها ودُررها .. ؛ كأجمل دُرر البحور على نحور الحور!
قدّمتُ في تلك الجامعة التي تعطي منحاً دراسية، وخضتُ اختباراتها؛ غير أنّي لم أتلقَ ردّاً: لا بالقَبول، ولا بالرفض! عدتُ إلى (القاهرة) محطّم البال عليل النّفس، واستأنفتُ دراستي في (كلية الآداب) حتى وصلتُ للسنة النهائية، ونسيتُ أمر الجامعة التي قدّمتُ فيها أوراقي كي أكون بجوار (حبيبتي).
قرّرتُ أن أسافر لإحدى الدول للعمل؛ وفي ليلة سفري ... بينما أنا أودّع أهلي وأحبّائي؛ إذ جاء مَن يخبرني أنني قُبِلتُ في المنحة الدراسية بالجامعة التي في بلد (حبيبتي)!! فَيَا رحمةً بالقلب إذ كنتُ أرحلُ!!
بات الخيار صعباً بين الرحلتين؛ إذ كان لزاماً عليّ أن أقدّم تضحياتٍ عديدةً إنْ أنا رغبتُ في السفر للدراسة في بلد (الحبيبة) .. ، أقلّ هذه التضحيات: أن أضحي بأربع سنواتٍ درستُها في تخصصٍ نادرٍ في (مصر) فضلاً عن الدول العربية، لأبدأ من جديد، ومن السنة الأولى في الجامعة التي أنا ذاهبٌ إليها!
¥