تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[بغداد المدينة التي أبكت المنصور]

ـ[د. محمد الرحيلي]ــــــــ[22 - 03 - 2003, 12:44 م]ـ

لا أعلم لماذا تترك المدن حفراً عميقة في نفوسنا، تشعرنا بالسعادة مرات وبالتعاسة مرات أخرى .. تلك الحفر الغائرة في أعماقنا تجعلنا نبحث أحياناً عن أشياء غامضة في مدينة لم نرها ولم نزرها قط .. مكان تشكلت فيه أحلامنا وشكّلته تلك الأحلام المتقطعة .. صنعته أمنياتنا الصغيرة التي ربما خلفناها وراء ظهورنا منذ عهد قديم .. تلك الأحلام والأمنيات التي صنعت المكان والمدينة التي في عقولنا تظهر فجأة وبإلحاح عندما نشعر أن مدينة الأحلام تذرف دموعها دماً وألماً وحسرة .. نحاول أن نلملم الأحلام كي نبني منها صورة، ربما لم تتشكل في يوم من الأيام ولكنها صورة على أي حال لمدينة عشناها في نفوسنا أكثر من عيشنا لها بأبداننا، رأيناها بعقولنا أكثر من أبصارنا .. مكان شكلته الأساطير وحكاوي الجدات ورسمته كتب التاريخ .. بغداد .. مدينة المنصور الدائرية ذات البوابات العتيدة والأبراج الشامخة صنعت أحلامي الصغيرة قبل عشرين عاماً عندما كنت أبدأ أول خطواتي للتعرف على المدينة وعمارتها .. منذ ذلك الوقت والغصة التي في الحلق تتزايد كل عام .. تلك المدينة التي لا تهدأ أشعر بها جسداً تعب من الجري ومن الحرب ومن الثورة ومن قسوتها على أبنائها .. قبل عقدين من الزمن كنت أحلم بزيارة المدينة العتيقة، كنت أبحث عن فرصة لم تأت لمشاهدة المدينة التي اختلف عليها المعماريون .. بغداد التي تصنع الاختلاف دائماً لم ترضَ أن تريني وجهها التاريخي ولم تجعلني أحظى أن اختلف معها ولو معمارياً .. لقد كانت منهكة في اختلافاتها الكبرى لم يكن لديها الوقت كي تلفت لواحد مثلي يرغب في رؤية وجهها الجميل الرائع .. لقد أنهكني انتظار بغداد الثائرة وصرت أناديها لعلها تسمعني ..

بغداد ..

أناديك .. إلا تهدأين .. فأنا ذلك الطفل القادم من الصحراء ..

يحلم بك .. عاصمة الخلافة ..

حافظة الكرامة ..

قطعة من حجر كريم مصانة ..

عاشق لك .. لترابك .. لأسوارك وبواباتك .. وأبراجك

لأزقتك العتيقة ..

ومساكنك و"شناشيلك" التي تصنع الحب ..

لوجوه أبنائك التي أنهكها الحرب ..

لساحتك العظيمة .. عند القصر ..

أرى المنصور .. هناك

يقف شامخاً .. يلوح بيده ..

يرسم خطا دائرياً .. بملء الكون ..

يضع خطة ولادتك ..

وولادة أمة عظيمة،،،

كم فكرت في المنصور وكم فكرت ..

آه لو رآك لمات همّا وكمداً ..

لأنكرك .. لقال ما أنت ببغداد ..

فبغداد التي يعرفها ماتت ..

لعل المنصور يبكي على بغداد كما نبكي .. لم يخطر بباله أن مدينته الأثيرة سوف تستباح وتهدر كرامتها .. لم يدر في خلده وهو يضع خطوطها الدائرية أن تلك الأسوار سوف تدك وأن قصرها الزاهر وساحتها المرتبطة بالسماء سوف يتحولان إلى ثكنة يُضرب منها أبناؤها .. ربما بكى المنصور من "هولاكو" عندما حرقها، عندما استباح دماء أبنائها، وربما بكى وهو يراها تفقد كرامتها يوماً بعد يوم .. ما أطول هذا البكاء الذي أنت فيه يا منصور،،، صنعت مدينة من البكاء، لا تكف أبداً عن إبكاء أبنائها الذين أحبوها، فبغداد تجد لذة في تعذيب من يحبها ..

دار السلام .. ياله من اسم لا يعكس ما تختزنينه من ثورة .. فهل ما زلت تبحثين عن السلام، وهل يحق لي أن أقول انك تمثلين السلام .. لا أعلم من أطلق عليك هذا الاسم ربما لم يخطر بباله أنك ستكونين بوابة من الدماء .. لعله عاشك مع الرشيد، عندما كنت شاغلة الدنيا وحاكمة لها .. ومع أنك ما زلت شاغلة الدنيا إلا أنك تنتمين لأمة منكسرة، لا تعرف كيف تتخذ قراراً ... يسيطر عليها الاختلاف .. تبحث عن تبرير .. فهل ما زلت مدينة السلام .. بغداد تبعثر السلام على جدرانك العتيقة .. وها أنت تقفين وحيدة .. مكتوفة الأيدي دون رفيق أو رفيقة .. فأين تلك الأمة العظيمة .. لقد تبدل الحال ولم يعد إمطار الغيوم في أي مكان هو إمطار في خزائنك التي لم يعد فيها ما يسد رمق أبنائك ..

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير