تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>
مسار الصفحة الحالية:

واخترتُ السفر للدراسة - رغم كل ما واجهتُ - لأكون بجوار (حبيبتي)! رفض أهلي وبعضُ مَن كان حولي في البداية، لكنهم وافقوا أمام إصراري، وبعد أن أصبحتْ (قصّة حبّي) لا تخفى على أحد!!

شعوران متناقضان ظلاّ يطاردنني طوال رحلتي الثالثة إلى بلد (حبيبتي) .. ؛ شعورٌ بالفرح والسعادة الغامرة لأنني سأكون بجوار مَن عشقتها، وشعورٌ بالحُزن لدموع أمي التي ما فارقتها لمدّة طويلة من قبل. قطع عليّ هذه الخواطر صوتُ قائد الطائرة يطلب منا ربط الأحزمة استعداداً للهبوط. وها أنا ذا .... أرى (حبيبتي) للمرة الثالثة عَياناً .. ، وسأحظى بقُربها سنوات، وليس ساعات.

في أول ليلة من وصولي لبلد (حبيبتي)، جاءني هاتفٌ في المنام يقول لي: " أَحْبِبْ مَن شئتَ فإنك مفارقه "!

استيقظتُ من نومي فزعاً، وأنا أفكّر في لحظة الفراق .... عجيب!! لماذا أفكّر في الفراق من الآن، وأكدّر صفو عيشي وأنا ما زلتُ في الليلة الأولى؟!!

مرّتْ الساعات، والأيام، والشهور، وأنا أرفُلُ في أثواب السعادة بجوارها، وعرفتُ طعم النوم الهاديء ومذاق الحياة؛ حتى إنّ وزني قد زاد كثيراً! حقاُ: إنّ الحبّ يصنع المعجزات.

في إجازتي الصيفية الأولى سافرتُ إلى (القاهرة)؛ لكنّي لم أقوَ على فراق (حبيبتي) أكثر من أسبوعين! وطرتُ لأستكمل دراستي عند ......... ...... (معشوقتي). وفي كل إجازة ما كنتُ أطيق أن أجلس في (القاهرة) أكثر من شهر رغم أنّ الإجازة تزيد عن ثلاثة أشهر؛ حتى لا أفارقها! بل إنني لولا غضب أهلي، وخلاّني وعتابهم لَمَا سافرتُ! أو لجلستُ في بلدي يوماً واحداً، وعدتُ أدراجي إليها حيث تركتُ قلبي وروحي! وكنتُ في الحقيقة أعجبُ من أمري على عدم صبري للجلوس في بلدي في كل إجازاتي .. وأقول لنفسي: أليسَ هؤلاء أهلك، وأصدقاء طفولتك الذين تحبّهم ويحبّونك؟! ألم تشتق إليهم طوال عام كامل؟! أليست هذه (القاهرة) الساحرة التي تعشقها بالليل وعند السَّحَر؟! أليس هذا هو (النيل) الذي طالما جالسته بالساعات تبثّه همومك وأشجانك؟! أَمِن الممكن أن تغيّر السنوات، والغُربة من مشاعر الإنسان وأحاسيسه؟! ...... أسئلة كثيرة كنتُ أهرب منها مع أول طائرة متّجهة إلى ديار (محبوبتي)!

ستّة أعوام كاملة وأنا أنعم بقُرب (الحبيبة)، لم يتغيّر شعوري نحوها، بل كان يزداد يوماً بعد يوم .. ، كنتُ أشعر بغُربة ووحشة إذا سافرتُ لأيّ مكان وابتعدتُ عنها، ولو لأيام معدودات! والعجيب ... أنني إلى الآن - وحتى لحظة كتابة هذه السطور - لم أصارحها بحبّي وعشقي إيّاها، ولا أعلم شعورها نحوي!! لكن يكفيني أنني أذوب عشقاً وهُياماً في حبّها.

أنهيتُ دراستي الجامعية وما بعدها .. ، وجاءت اللحظة التي كنتُ أتمنى أن أموت قبل أن أعيشها! لحظة لو استطاع البشرُ جميعاً أن يبذلوا ما لديهم ليوقفوا الزمن حتى لا يدركوها لفعلوا!!

أحقاً بعد كل هذا الحب، والعشق، والجوار لابد من الفراق؟!!

أبَعدَ أن صار حبّها يجري في دمائي، ويختلط بلحمي وعظامي أفارقها؟!!

لقد تركتُ الدنيا بأسرها مِن أجلها، ضحّيتُ بكل غالٍ ونفيسٍ لأنعم بقُربها، تحمّلتُ شظف العيش فيها، وصبرتُ على شدّتها ولأوائها كيما تقرّ عينيّ برؤياها!

أحقاً حان الرحيل عن (حبيبتي)؟!! أَأُفارق مدينة رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - بعد أن عشتُ فوق ثراها، وعشقتُ كل شبرٍ بين (لابتيها)!! آهٍ ويح قلبي المسكين!

هل يمرّ يومٌ دون أن أمرّ على (جبل أُحُد)، أو أرى (بقيع الغَرقَد)، أو أمشي في أروقة (الجامعة الإسلاميّة)، أو أصلّي في (المسجد النبوي الشريف)، ومسجد (قٌباء)، وأسير في (قربان)، و (السيح)، و (العقيق)؟!!!!! أتحسبون أنني أقوى على فراق هذا كله، حتى وإن نزعتم روحي وعقلي؟! أترونني أستطيع أن أغادر (المدينة النَّبويّة) بلا رجعة؟!!! ومَن يضمن لي حياةً إنْ أنا خرجتُ منها حتى أعود إليها؟!!

أتصدّقون أن عَبَراتي تسبق عِباراتي، وأنّ دماء قلبي الصريع هي مِداد قلمي الآن وأنا أسطّر هذه السطور؟!

وهل جرّبتم يوماً أن تفارقوا (طَيبة) بعد لذيذ الإقامة فيها؟! فإن كنتم تقْدرون، فأنا لا أقدر ولا أصبر، وليس لي غير الله مِن راحم.

وها هو الهاتف يأتيني مرّة أخرى: " أَحْبِب مَن شئتَ فإنك مفارقه "!! أتراني أتمثّلُ دعاء عمر - رضي الله عنه -: " اللهمّ ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك - صلى الله عليه وسلم - "؟!

وقد استجاب الله - تعالى - دعاء عمر - رضي الله عنه - فهل يستجيب دعوة مَن هو مثلي؟!!!!!!!!

اللهمّ اجبر كسر قلبي على فراق (المدينة)، واجعل عيشي وموتي في ثراها.

وكتب

شادي السيد أحمد

المدينة النبوية

الجمعة: 7/ 3/1421هـ

abuanasshady*************

وقد قدّر الله - سبحانه - وخرجتُ من (المدينة) - رغماً عني - يوم الأربعاء: 3/ 1/1422هـ، والله المستعان، ومنه الصبر والسلوان.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير