تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

قصيد رائع ماتع؛ ترقيت معه في مراقي البيان، وتصعدت في صعد البلاغة؛ حتى خشيت عليك ـ لِمَا قراتُ من أوله ـ أن ينحط ّ انحطاطا شديدا في آخره. ولكن الله سَلّم:)

وكنتَ قد شرفتني ـ حفظك الله ـ بالنظر في قصيدك هذا بعين النقد ولستُ من أهله، وطمعت إلى بحسن ظنك فيّ وأنا المغبون بجهله. فإن كان ولا بدّ وإن كنتَ ممن يرضى بالعلالة؛ فأنعم عينا، ومنك العذر ولك العتبى يا رسالة.

إلى الأبيات:

ما كانَ عَهدي بالذينَ تَحَملوا

إلا كعهدِ مَن احتواهُ الجندلُ

الله الله!

مطلعٌ رائق فائق .. جزل فحل .. فخم زخم ...

أغناه الشاعر بما اختار من الأساليب الفخمة وبما نوّع وأبدع؛ كالاستثناء المفرّغ في: " ما كان عهدي ... إلا كعهد ... "

والصورة الكنائية في: " ... إلا كعهد من احتواه الجندل". والمعنى: " لم يكن عهدي بالأحبة يوم فراقهم إلا كعهد أهل الميت به بعد دفنه في قبره ".

وهي كناية بديعة عن عدم التلاق إلى يوم المساق. وقد زاد من جمالها اجتماعها مع التشبيه تأكيدا للمعنى وتمكينا.

ومن جماليات هذا البيت اللطيفة: أن حال من يتحملون من الأحباب على الهوادج ثم يذهب بهم مشابه لحال من يحملون على الأعواد إلى قبورهم. والله المستعان.

وهذا من التناسب البديع الذي يدل على قيمة هذا المطلع في البيان. وإنه لمن الأبيات المعدودة في حسن الابتداء. أقول ذلك غير متحرج ولا متلجلج!

أما من حيث الإيقاع؛ فقد تزين هذا المطلع بحسن جرس التصريع؛ فكان لبّ لباب الحسن وعين ناظر البديع.

هَجَرَت قَرارَ الحالِ نَفسي مُذ رَقَى

قَلبي جِهَامَ العيسِ ساعة َ أجفلوا

هذا البيت لا يقل عن سابقة فخامة وجزالة، ومتانة وقوة سبك؛ ففي قوله: " قرار الحال " كناية بديعة عن صفة الاستيطان وعدم الترحال.

وفي: " هجرتْ قرارَ الحال نفسي " استعمال جيد لتقانة التقديم والتأخير لم يخلُ من نكتة بلاغية وفائدة جلية.

وبين:" قرار " و " رقى " جناس حسن لطيف لا يسطيعه إلا جلة الأدباء!

وفي: " مذ " و " ساعة " تنويع في ظروف الزمان حسن بديع.

وفي: " جهام العيس " استعارةُ الغلظِ والتكرُّهِ لظهور الإبل غير الذلول.

وهي استعارة بالغة عليها وشي من الصنعة غير المتكلفة. تم معها المعنى أحسن تمام؛ فجاءت متسقة مع حال القلق وعدم الاتزان التي لزمت الأحبة ساعة الترحال.

وحَكَت دموعي إثرهم رسمَ السرى

بعضٌ يخِب وآخرٌ يتغلغل

المعنى: أشبه أثرُ دموعي وراءهم أثرَ الرسم الذي تحدثه الراحلة في الطريق. وقد قيده الشاعر بكونه وقت السرى. والسُّرى ـ بضم السين ـ: المسير بالليل في الرحلة خاصة، وفي المثل المشهور: " عند الصباح يحمد القوم السرى ".

وقد أحسن الشاعر في هذا البيت استعمال تقانة الحذف مقتدرا، في موضعين:

ـ الأول في قوله: حكت دموعي، أي: أثر دموعي. حذف المضاف.

ـ والآخر في قوله: " رسم السرى " أي: رسم من يسيرون في السرى. ولعل هذا الأسلوب يدخل في المجاز المرسل الذي علاقته الزمانية. والله أعلم!

هذا عن الشطر الأول، وهو غاية في الحسن.

أما الشطر الثاني فلم يرتق إلى الدرجة المأمولة؛ وبدأ ضعف الأسلوب يتسرب إلى القصيدة؛ بدليل عدم انتظام المقابلة بين " يخب " و " يتغلغل "؛ لأن الإخباب في معنى السرعة، فيقابله الإبطاء أو نحوه.

فإن قلت: إنما أردت بالتغلغل صفة الزيادة في أمد السرعة؛ كان الجواب: فلم نظمت المعنى إذا في سلك المقابلة والتقسيم، وإنما تكون المقابلة بين الضدين، كما يكون التقسيم بين الأقسام المعلومة المستوفاة.

فإن قلت: لم أرد التقسيم؛ وإنما أردتُ بيان الحال دون استيفاء واستقصاء. كان الجواب: فما الحكمة من ذكرك هذه الأحوال مع ذكر رسوم الطريق مع رسوم الدموع؛ فإن كان لذلك مزيد فائدة فبها ونعمت؛ وإلا فقد دخل الشطر الثاني في باب التطويل دون فائدة تذكر.

ومَحَاجري لِفراقِهم كدِيارِهم

أودى معالمَها ملثٌّ مُمحل

هذا البيت تابع في المعنى للذي قبله؛ فإنه لمّا حكت الدموع أثر الرسم؛ ارتسمت معالمها على الخدود؛ من شدة جريان الدمع فيها.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير