وقوله (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) إثباتٌ لا سْمي السميع البصير , وهما يدلان على إثبات صفتي السمع والبصر.
وقوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) يدل على التنزيه , أي: أنه له سمعٌ لا كالأسماع , وبصرٌ لا كالأبصار.
وقال تعالى (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً) قال ابن كثير رحمه الله (قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هل تعلمُ للربِّ مثلاً أو شبيهاً , وكذلك قال مجاهد وسعيد بن جُبير وقتادة وابن جريج وغيرهم).
وقال الله تعالى (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) والكفو هو المثلُ والنظير , قال القرطبي في تفسيره 20/ 246 (لم يكن له شبيهٌ ولا عدل , ليس كمثله شيء).
وكلمة (أَحَدٌ) جاءت في سياق النفي , فتكون عامةً في نفي كلِّ شبيه أو مثيل , وما جاء في تفسير ابن كثير من تفسير هذه الكلمة بالزوجة هو من قبيل التفسير بالمثال , وهذه الجملة من السورة مؤكدةٌ لما تقدم من الجُمل , ولا سيما الجملة الأولى , فهو سبحانه وتعالى أحدٌ , ولا يكون أحدٌ كفواً له.
وقوله (ولا وَلَدَ له , ولا وَالِدَ له , ولا صاحبةَ له) الصاحبةُ هي الزوجة , وقد جاء في القرآن نفي الولد والوالد والصاحبة عن الله عز وجل قال الله عز وجل (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) فنفى عنه الوالد والولد , ونفي عنه كل مثلٍ ونظير , ومنه الزوجة , وفي هذه السورة الكريمة إثباتُ أحديَّيه وصمديته , ونفيُ الأصول والفروع والنظراء عنه , فهو أحدٌ لا كُفء له , وهو صمدٌ لا ولد ولا والد له , والصمدُ هو الذي تصمد إليه الخلائق بحوائجها , وهو الغنيُّ عن كل مَن سواه , المفتقرُ إليه كل من عَداه , فلكمال غناه لا يحتاجُ إلي الوالد والولد , ولكونه واحداً أحداً لا يكون أحدٌ له مثلاً ونظيراً , والوالد جاء نفيهُ في القرآن الكريم في هذه السورة في قوله تعالى (وَلَمْ يُولَدْ) وأما الولد فقد جاء نفيهُ عن الله في آيات كثيرة , وذلك أن اليهود يقولون: عزيرٌ ابن الله , والنصارى يقولون: المسيح ابن الله , والكفار الذين بُعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: الملائكة بنات الله , ومن ذلك قول الله عز وجل في البقرة (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) وقال في المؤمنون (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ) وقال في مريم (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً) وغير ذلك من الآيات منها في النساء والأنعام والتوبة ويونس والإسراء والكهف والأنبياء والصافات والزخرف والجن.
وأما الصاحبة فقد جاء نفيُها عن الله عز وجل في القرآن مع نفي الولد عنه في قوله عز وجل (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ ... ) وقوله في الجن (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً) أي: تعالت عظمته.
وما جاء في كلام ابن أبي زيد - رحمه الله - من نفي الشبيه والنظير والوالد والولد والصاحبة هو نفيٌ على طريقة السلف , وهو نفيٌ متضمنٌ إثبات كمال الله عز وجل , فنفيُ الشبيه والنظير متضمنٌ إثبات كمال أحديته , ونفيُ الوالد والولد والصاحبة متضمن إثبات كمال غناه , وكل ما جاء في القرآن من نفي شيء من الله فإنه يتضمن إثبات كمال ضد ذلك المنفي , مثل قوله ( ... وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً) فإنه دال على إثبات كمال قدرته , وكذا قوله (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) أي: من تعب , فهو متضمن إثبات كمال قدرته , ومثل قوله (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) وهو دال على إثبات كمال عدله , وقوله (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) فهو دال على إثبات علمه.
وهذا بخلاف النفي عند أهل الكلام , فإنه لا يدل على كمال , بل يُؤدي إلى تشبيه الله عز وجل بالمعدومات , وكما سبق إيضاح ذلك في الفائدة الثانية.
يتبع
ـ[أبوخطاب العوضي]ــــــــ[16 Aug 2004, 07:35 م]ـ
ليس لأَوَّلِيَّتِهِ ابتداءٌ , ولا لآخِريّتِه انقضَاءٌ
كلام ابن أبي زيد هذا منتزعٌ من قول الله عز وجل (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وفي هذه الآية إثبات اسم (الأول) لله عز وجل , الذي يدلُّ على أن كل شيء آيلٌ إليه , واسم (الآخر) الدالُّ على بقائه ودوامه وآخريته , وقد جاء تفسير الأسماء في هذه الآية في حديث مشتمل على دعاء وفيه (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء , وأنتَ الآخر فليس بعدك شيء , وأنت الظاهر فليس فوقك شيء , وأنتَ الباطن فليس دونك شيء , اقْضِ عنَّا الدين وأغننا من الفقر) أخرجه مسلم في صحيحه 2713 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ومعنى قول ابن أبي زيد هذا أن الله لم يسبقه عدم , ولا يلحقه عدم , وأما المخلوقات فلها بداية سبقها عدم , ولها نهاية يلحقها عدم.
وأما ما جاء في نصوص الكتاب والسنة من بقاء الجنة والنار ودوامهما ودوام أهلهما فيهما , فلا يُنافي كونه سبحانه الآخرَ الذي ليس بعده شيء , لأن بقاءه لازم لذاته , بخلاف الجنة والنار ومن فيهما , فإنه مكتسبٌ قد شاءه الله وأراده , ولو لم يشأه لم يحصل ولم يقع , قال ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية ص629 (وبقاء الجنة والنار ليس لذاتهما , بل بإبقاء الله لهما).
وقول ابن أبي زيد (ليس لأَوَّلِيَّتِهِ ابتداءٌ , ولا لآخِريّتِه انقضَاءٌ) أولى من قول الطحاوي في عقيدة أهل السنة والجماعة (قديمٌ بلا ابتداء , دائمٌ بلا انتهاء) لتعبيره بما يُطابق اسْمَي الله: الأول والآخر.
¥