بأحياء العرب ينشد شعره لعامتهم ما نصّه: « ... ولا نرتاب في أنّ من كانوا يستمعون إليه كانوا يستعيدون ـ في حضرته ـ ما ينشده مراراً , وأنهم كانوا يطلبون منه المزيد , ولا نرتاب أيضا في أنّهم كانوا ـ إذا رحل ـ يتحدثون عنه وعن شعره , فيتعصب بعضهم له ويتعصب بعضهم عليه مؤثرا شعراء قبيلته. وكذلك كان شأنهم في الأسواق حين يستمعون إلى ما ينشد الشعراء , فيظهر فريق منهم إعجابا , ويظهر فريق سخرية واستخفافا. ولعل هذه هي أول صورة لتقدير الجماهير للأدب وتقويمه , وبروها في العصر الجاهلي يدلّ على رقي الذوق حينئذ , وقد اندفع الشاعر يحاول إرضاء هذا الذوق وأن يقع منه موقع استحسان .... »
ثانيا مستويات النقد وميادينه في النصّ الأدبي الجاهلي: إنّ النقد الأدبي في العصر الجاهلي قد طال جميع مستويات النّص الأدبي وأوشك أن يتعرّض لجميع جزئياته وموضوعاته لولا بدائية الحياة الفكرية وبعدها عن النظرة التحليلية للمظاهر والأشياء ... التي منعت التعمق والتوسّع في نقد النصوص الأدبية
فنحن نرى المحكَّمين والنقادَ يتعرضون للّفظة المفردة التي لم تقع في مكانها وللمعنى المبتذل أو الناقص أو غير المناسب للمقام كما يتعرضون لشكل النّص ولمضمونه ويتعرضون لصاحب النصّ ذاته ... وغيرها من المجالات التي سنذكرها مصحوبة بنماذج نقدية وشواهد نصية ...
1) نقد الألفاظ: فمن ذلك ما يروى أنّ المسيب بن علسٍ مرّ بمجلسِ بني قيس بن ثعلبة فاستنشدوه , فأنشدهم:
ألا أنعم صباحا أيّها الربع وأسلم محييك عن شحط وإن لم تكلم
فلمّا بلغ: وقد أتناسى الهمّ عند ادّكاره بناج عليه الصيعرية مكدم
فقال طرفة ـ وهو صبي يلعب مع الصبيان ـ: استنوق الجمل. لأنّ ابن علسٍ وصف جمله بالصيعرية وهي سمة في عنق الناقة لا البعير. ومن أمثلته كذلك نقد النابغة الذبياني لحسان بن ثابت رضي الله عنه حين استعمل لفظة الجمع البسيط دون منتهى الجموع أو جمع الجموع للدلالة على الكثرة ومن أمثلته البارزة كذلك: ما يروى أنّ الأعشى أنشد قيس بن معديكرب أحد أشراف اليمن شعرا في مدحه جاء فيه:
ونبّئت قيسا ولم أبله وقد زعموا ساد أهل اليمن
فعابه قيس لما شاب معناه من الشكّ في ملك أهل اليمن لأنّ استعمال لفظة الزعم تفيد في أصل وضعها والشائع في استعمالها الشكّ والزعم كما يقولون أخو الكذب أو مطية الكذب حتى وإن كانت العرب تستعمل هذه اللفظة ونحوها بمعنى اليقين كذلك إذا وُجد في السياق ما ينحو بها نحو هذا المعنى .... ولم ينفع الأعشى محاولة إصلاح بيته حين قال:
ونبئت قيسا ولم آته على نأيه ساد أهل اليمن
فالعربي كان ينتقد النصّ الأدبي من جهة ألفاظه ومفرداته انطلاقا من سجيّته اللغوية وفطرته الكلامية فهو عارف بلغته مدرك لاستعمالات ودلالات ألفاظها حقّ المعرفة وتمام الإدراك ... يقول الدكتور مصطفى عبد الرحمن إبراهيم: « ... ولقد كان العربي على صلة وثيقة بأسرار لغته , يدرك بفطرته الدلالة الوضعية للكلمات فإذا ابتعد الشاعر عن تلك الدلالة , واستعمل الكلمة في غير موضعها , دون أن يلمح علاقة بين المعنى الأصلي للكلمة والمعنى الذي نقلها إليه أحسّ بذلك إحساسا مباشرا وعبّر عن ذلك الإحساس بما تجود به قريحته.»
ولقد كان هذا النوع من النقد قليل لقلة الأخطاء اللغوية أو قل لقلّة العدول اللغوي غير المناسب يقول الدكتور عبد الرحمن إبراهيم: « ... والظاهر أنّ هذا اللون من النقد كان قليلا نادرا لأنّ العربي كان شديد الحساسية بلغته ودقيق الإصابة فيها يجري في استعمال الكلمات على طبعه وسليقته فإذا ظهر شيء يخالف الطبع والسليقة فطنت إليه الأذواق الناشئة وعافته وذلك نادر ... ولعل هذا هو الذي يعلل لنا نقص النصوص التي نقلها الرواة في هذا الشأن.»
¥