2) نقد المعاني: المقصود بالمعاني دلالات الألفاظ سواء على ما وضعت له أصالة (الحقيقة) أو نقلا (المجازات) ولكي تكون سليمة في حسّ الناقد العربي البسيط ينبغي أن تكون المعاني مطابقة لذاته لأحاسيسه , معبرة عن قيمه ومثله , عاكسة لواقعه وبيئته وللطّبيعة من حوله ... فإن كانت كذلك فهي جميلة مستحسنة في ذوقه وأحكامه وإن خالفت معهوده فهي مستهجنة قبيحة يسارع إلى انتقادها بأسلوبه البسيط المتماشي مع طبيعة بيئته ... ومن أمثلة هذا النوع من النقد انتقاد العرب للمهلل بن ربيعة في بيته الذي نعتوه بأكذب بيت قالته العرب حيث يقول:
فلولا الريح أسمع أهل حجر صليل البيض تقرع بالذكور
لأنّه من أهل الشام كان منزله على شاطئ الفرات فكيف يسمع قبيلة حجر وهي في اليمامة وبينهما مسافات طوال ... فالنقد هنا بسبب مبالغته في المعنى مبالغة خالفت معهود العرب وإلاّ فإنّ أصل المبالغة كانت مطلوبة ومقصودة في شعر العرب وخاصة في مجال المدح والفخر ولهذا نرى النابغة في نموذجنا الثاني كيف ينتقد حسان بن ثابت رضي الله عنه لأنّه لم يبالغ في معان يقتضي المقام المبالغة فيه (فالجفان) أبلغ من (الجفنات) و (يجرين دما) أبلغ من (يقطرن) هذا من حيث قصد المبالغة وكذلك انتقده من جهة مخالفة معهود العرب وعرفهم فالعادة جرت عندهم على الافتخار بالآباء لا بالأبناء فكان الأولى أن يقول (أكرم بنا أبا) لا (أكرم بنا ابنما) ... والضيوف إنّما يطرقن الديار في الليل لا في الضحى فكان ينبغي له أن يقول (يبرقن بالدجى) بدل (يلمعن في الضحى) ...
ولعل شاهد النابغة هذا قد جمع بين النقد اللفظي والمعنوي كما قال الأستاذ شوقي ضيف: « ... وهو نقد سديد , إذ يتناول فيه النابغة مسألتين: إحداهما لفظية والأخرى معنوية , أما اللفظية فإنّ حسانا لم يجمع الجفنات جمعا يدلّ على الكثرة , والعرب تستحب المبالغة في مثل هذا الموقف حين يفخر الشاعر بالكرم والشجاعة في قبيلته , أما المسألة المعنوية ففخره بمن ولدته نساؤهم والعرب لا تفخر بالأبناء وإنما تفخر بالآباء ... »
3) نقد الشكل: المقصود بشكل النّص الأدبي ما يتعلق بصورته من حيث عمودية الشعر وأوزانه وقوافيه وتركيبة قصائده من جهة مقدماتها وأغراضها ونحو ذلك ... فمن النماذج والشواهد على اشتغال النقد الجاهلي وتعرّضه لشكل المنتوج الأدبي ما يروى عن النابغة الذبياني أنّه كان يّقوي في شعره ولا يتفطّن لذلك كقوله:
أمن آل مية رائح أو مغتدي عجلان ذا زاد وغير مزود
زعم البوارح أنّ رحلتنا غدا وبذلك خبّرنا الغرابُ الأسودُ
فلمّا قدم على أهل المدينة أرادوا أن يشعروه بلحنه فعمدوا إلى جارية وطلبوا منها ترتيل هذه الأبيات أي إنشادها في استمرارية وتتابع فأحسّ النابغة بنشاز في أبياته وتفطّن لإقوائه فأصلحه بقوله:
وبذلك تنعابُ الغرابِ الأسودِ
ولهذا السبب كان النابغة يقول: قدمت الحجاز و في شعري صنعة ورحلتُ عنها وأنا أشعر النّاس
ومثله إقواء بشر بن أبي خازم , يقول أبو عمرو بن العلاء: فحلان من الشعراء كان يقويان النابغة الذبياني وبشر بن أبي خازم فأمّا النابغة فدخل يثرب فغنى بشعره فلم يعد إلى إقواء , وأما بشر بن أبي خازم فقال له أخوه سوادة: إنّك تقوي قال وما الإقواء؟ قال قولك:
ألم تر أنّ طول الدهر يسلي وينسي مثل ما نسيت جزامُ
ثمّ قلت:
وكانوا قومنا فبغوا علينا فسقناهم إلى البلد الشامِي
فقال: تبيّنتُ خطئي ولستُ بعائد. اهـ
ولو أردنا شاهدا قويا على اهتمام نقاد العصر الجاهلي بشكل القصيدة من حيث الوزن والقافية والروي فلنتأمل في حكومة أمّ جندب المشهورة حيث تقول الرواية كما ذكرها ابن قتيبة في الشعر والشعراء أنّها طلبت من الشاعرين المتنافسين والمتبارزين امرئ القيس وعلقمة الفحل أن يقولا قصيدتين في موضوع واحد على رويّ واحد وقافية واحدة ... وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ الشكل كان له دور في المفاضلة بين الشعراء وفي نقد أشعارهم ...
4) النقد الجمالي الفنّي: ونقصد به نقد النصوص الأدبية في العصر الجاهلي من حيث أدائها لوظيفة جمالية سواء من جهةجاذبيتها وسحرها الذي قد يخفى سرّه وتجهل علله أو قد تعلم وتتعدد بين حلاوة الألفاظ وعذوبة المعاني وجرس الحروف وبديع التركيب وحسن التشبيه وغير ذلك ...
¥