ومن نماذج وشواهد هذا النوع من النقد ما أورده المرزباني بسنده قائلا: تحاكم الزربقان بن بدر وعمرو بن الأهتم وعبدة بن الطبيب والمخبّل السعدي إلر ربيعة بن حذار الأسدي في الشعر , أيّهم أشعر؟ فقال للزربقان: أما أنت فشعرك كلحم أسخن (وضع على النار مدّة غير كافية فلم يتم نضجه) لا هو أنضج فأكل ولا ترك نيّئا فينتفع به , وأما أنت ياعمرو فإنّ شعرك كبرود (الثياب المخططة) حبر (هي الثياب الموشاة) يتلألأ فيها البصر فكلما أعيد فيها النظر نقص البصر , وأما أنت يا مخبّل فإنّ شعرك قصر عن شعرهم وارتفع عن شعر غيرهم وأما أنت يا عبدة فإنّ شعرك كمزادة (ما يوضع فيه الماء) أحكم خرزها فليس تقطر ولا تمطر.
وممّا قاله الدكتور مصطفى عبد الرحمن معلقا على هذا الشاهد بعد مت حكم عيه أنّه من النماذج التي تنظر إلى جودة الشعر من حيث أداء وظيفته الجمالية مايلي:
« ... وخلاصة هذه التشبيهات أنّ شعر الزبرقان كلام في صورة الشعر لم يبلغ درجة النضج , بل هو فاسد لا غناء فيه , لأنّه فقد الجزالة , وحرارة العاطفة التي تجعل له طعما ممتازا.
وشعر عمرو بن الأهتم يبهر العين فتعجب به لأوّل نظرة لأنّ الفاظه براقة وأساليبه خلابة فإذا فتّش الناظر في حقيقته واستكنه معانيه لم يجد شيئا. وشعر المخبل السعدي شعر متوسط لا ينهض بصاحبه حتى يرقى إلى مرتبة الفحول ولا ينحطّ إلى درجة كلام المتشاعرين.
وفي شعر عبدة بن الطيب جزالة وإحكام قوة أسر لا يرى الناظر فيه ضعفا ولا يلمح في أساليبه أو معانيه وهنا فهو أشعر الأربعة.» ثمّ يقول معلقا على هذه الأحكام: « ... وهذه الأحكام من ربيعة بعيدة عن التفصيل وعن الوضوح وعن الدقة وعن الاستشهاد وعن الدليل لأنّها أوصاف عامة لكنّها تنم عن ذوق يحاول التمييز بين الجيّد والرديء وتدل على محاولة تقويم الشعر تقويما يعتمد على الانطباع العام والبادرة السريعة والخاطرة الفجة التي يمليها ذوق من عاش في هذه البيئة التي تعيش الفطرة وتغيب عنها الدقة وتفتقد إلى التعليل المريح ولا تعرف من المعايير النقدية شيئا إلاّ الذوق الذي يحس الجمال دون أن يعرف سببه.» اهـ
5) نقد الأديب: من جهة أنّه خرج عن أعراف العرب أو أنّه تناقض في بعض أقواله أو انتهج نهجا مخالفا للمروءة والشهامة والجود والكرم وما شابه ذلك ...
ومن شواهد هذا الضرب من النقد ما يروى عن الشماخ أنّه مدح عَرَابة أحد أشراف الأوس فقال يخاطب ناقته:
إذا بلَّغتني ـ وحملتِ رحليَّ ـ عرابةَ فاشرُقي بدمِ الوتينِ
فعاب عليه أحَيْحة بن الجُلاح ذلك وقال له: بئس المجازاة جازيتها.
لأنّه استغرب من شاعر يريد أن يجازيَ ناقته على حسن صنيعها بنحرها وإراقة دمها ... فالشاعر ها هنا وقع في تناقض صارخ تمجّه الطباع وترفضه العقول ...
ومنه كذلك حكومة أم جندب امرأة امرئ القيس التي ـ كما تقدم ـ تحاكم إليها زوجها وعلقمة الفحل أيّهما أشعر فقالت: قولا شعرا تصفان فيه الخيلَ على رويٍّ واحدٍ وقافية واحدة فقال رسول امرؤ القيس:
خليليَّ مُرَّا بي على أمّ جندبِ لنقضيَ حاجاتِ الفؤادِ المعذّبِ
وقال علقمة:
ذهبْتَ منَ الهجْرانِ في كلّ مذهبِ ولم يكُ حقّاً كلُّ هذا التّجنُّبِ
ثمّ أنشداها جميعا فقالت لامرئ القيس: علقمة أسعرُ منك. قال: وكيف ذلك؟ قالتْ: لأنّكَ قلتَ:
فللسوطِ أُلهوبٌ وللساقِ درّةٌ وللزّ جْرِ منه وقعُ أخْرَجَ مُهْذِبِ
فجهدتَ فرَسكَ بسوطكَ ومرَيْتَهُ بساقكَ وقال علقمةُ:
فأدرَكَهنّ ثانيا من عِنانه يمرُّ كمرِّ الرائحِ المتحلّبِ
فأدركَ طريدته وهو ثانٍ من عِنانِ فرسه لم يطربه بسوط ولا مَرَاه بساقٍ ولا زجره. قال: ما هو بأشعرَ منّي ولكنّك له وامقٌ! فطلّقها فخلَفَ عليها علقمةٌ , فسمي بذلك "الفحلُ" .... اهـ
وعيب الشاعر ها هنا ـ كما يراه ـ الناقد ـ ولا يشترط بالضرورة أن يكون محقّاً ـ قد بلغ هدفه بجهد جهيد وعسر شديد وبطريقة فيها كثيرٌ من الشدّة والظلم بينما خصمه بلغ ذات الهدف بعمل قليل وسهولة ويسر وعامل دابته معاملة تنبئ عن مروأة وشهامة ...
ثالثا: بعض المظاهر النقدية في الجاهلي:
1) ظاهرة المفاضلة بين الشعراء وتقديم بعضهم على بعض:
¥