وأسباب هذه الظاهرة كثيرة جدّا لعلّ أهمّها العصبية والتنافس القبلي وكثرة الشعراء ووفرتهم في البيئة العربية الجاهلية إضافة إلى أنفة الإنسان الجاهلي وحبّه للتفاخر والتقدّم على غيره ...
يقول الأستاذ شوقي ضيف واصفا هذه الظاهرة: «ويظهر أنّ الشعراء حينئذ كانوا يتفاخرون بشعرهم ويتنافرون فيه كما يتنافر الأشراف في سؤددهم فكانوا يعرضونه على المحكّمين ليقضوا بينهم ... »
و يعتبر الأستاذ قصيّ الحسين هذه الظاهرة إحدى أبرز أوجه النقد في العصر الجاهلي حيث يقول: « ... ولعل الحكم على الشعر من جهة والتنويه بمرتبة الشاعر ومكانته بين الشعراء من جهة أخرى , كانا الميدانين اللذين جال فيهما النقد جولات خفيفة في العصر الجاهلي»
ومن أمثلة ونماذج هذه الظاهرة تقديم النابغة الذبياني للأعشى على غيره من الشعراء ثمّ ثنّى بالخنساء بينما ناقد آخر هو عمرو بن الحارث الغساني قدّم حسان بن ثابت على النابغة نفسه وعلى علقمة
ولما سئل لبيد عن أشعر الناس أجابهم بقوله: الملك الضليل قيل: ثمّ من؟ قال: الشاب القتيل , قيل: ثمّ من؟ قال: الشيخ أبو عقيل ـ يعني نفسه ـ
ويقول الدكتور مصطفى عبد الرحمن يصف هذه الظاهرة بالذاتية والبعيدة عن الموضوعية: «من صور نقد الشعر الذاتية عند الجاهليين تقديمهم شاعرا على غيره تقديما مطلقا دون إبداء علة معقولة تسوغ التقديم أو تعزز الحكم , وتخرج به عن حيّز الذاتية وأثر الهوى إلى دائرة الموضوعية السديدة ... » والحقيقة أنّ هذا الحكم ليس على إطلاقه لأنّ عدم إبداء أسباب الحكم وعلل التقديم لا يعني بالضرورة أنّه حكم ذاتي بعيد عن الموضوعية هذا من جهة ومن جهة أخرى فإنّ المتأمّل في النماذج القليلة المتوفرة بين أيدينا يلاحظ شيئا من المنهجية الموضوعية في هذه المحاكمات وهذا التفاضل بين الشعراء فالمحكّم ليس من هبّ ودبّ بل هو الشاعر الفحل النحرير المتقدم أو الطاعن في السنّ صاحب التجربة الكبيرة والمتفق على حكومته كالنابغة الذي كانت العرب تضرب له خيمة من آدم أحمر في سوق عكاظ ثمّ إنّ هذه المفاضلة لها شروطها وأحكامها كتلك التي نبّهت عليها أم جندب حين اشترطت وحدة الموضوع والرويّ والقافية ... فهذه بعض المعالم التي تنبئ أنّ هذه المفاضلات لم تخلو قطّ من شيء من الموضوعية والمنهجية ...
2) ظاهرة التهذيب والتثقيف:
وقد تقدم الحديث عن هذه الظاهرة في مبحث بيان أوّل مستويات النقد في العصر الجاهلي الذي كان متمثلا في نقد الشاعر لنفسه قبل أن ينتقده غيره
والمقصود بها ما يقوم به الشاعر من تهذيب لشعره وتثقيفه له بحثا عن الجودة والكمال لإرضاء نفسه أوّلا فيرتاح لعمله ولإرضاء العامة والتماشي مع أذواقهم واختياراتهم ...
وعناية الشاعر بشعره واهتمامه به بالتصحيح والتعديل والتثقيف هو منحىً واتجاه نقدي ومدرسة شعرية بدأت في العصر الجاهلي ثمّ تتابعت خلال العصور الأدبية المتلاحقة ...
ولعل أشهر من يمثّل هذا الاتجاه هو الشاعر الجاهلي الكبير زهير بن أبي سلمة الذي كان يستغرق تهذيبه للقصيدة حولا كاملا فسميت لأجل ذلك بالحوليات ينظمها في أربعة أشهر وينقحها في أربعة أخرى ثم يعرضها على الخاصة في أربع ليكتمل بذلك الحول قبل أن يعرضها على عموم النّاس.
وقد سار على هذا النهج ابنه كعب وراويته الحطيئة وفي تهذيب الشعر وتنقيحه يقول كعب بن زهير مشيدا بفضله وفضل الحطيئة وحاجة الشاعر إلى الجهد والخبرة والتهذيب والتنقيح ليبلغ المرتقى:
ومن للقوافي شأنها من يحوكها إذا ما ثوى كعب وفوز جرول
يقومها حتى تلين متونها فيقصر عنها كلّ ما يتمثل
وفي رواية: شانها من يحركها , فوز بمعنى مات وجرول هو اسم الحطيئة جرول بن أوس بن مالك
ويقول راوية زهير وحامل منهجه التهذيبي الحطيئة في بيان صعوبة الشعر في حقّ من لا يحسن قرضه بالتثقيف والتهذيب
الشعرُ صعبٌ وطويل سلّمه إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
زلّت به إلى الحضيض قدمه يريد أن يعربه فيعجمه
¥