ومما ذكره الدكتور مصطفى عبد الرحمن في هذا الشأن « ... وعملية التثقيف والتنقيح تصور إدراكهم لقيمة الفنّ الشعري وما ينبغي أن يكون عليه من جمال ونضج , ومن هنا يصحّ لنا أن نستنتج أنّ العرب في تلك المرحلة كانوا على علم ولو غير ناضج بالجمال الشعري ومقاييسه الفنية ومعطياته العامة يؤكد ذلك ما سبق أنْ ذكرناه من أنّ بعض كبار الشعراء كزهير مثلا كان ينقح شعره , فلا يخرج قصائده إلاّ بعد حول كامل يقسمه على مراحل وهذه القصائد سميت بالحوليات ولا يكون التنقيح إلاّ إذا أدرك الشاعر بعض النواحي التي يرتكن إليها في عمله هذا.»
3) ظاهرة الرواية:
يقول الأستاذ شوقي ضيف: « ... فرواية الشعر في العصر الجاهلي كانت هي الأداة الطيّعة لنشره وذيوعه , وكانت هناك طبقة تحترفها احترافا هي طبقة الشعراء أنفسهم , فقد كان من يريد نظم الشعر وصوغه يلزم شاعرا يروي عنه شعره, وما يزال يروي له ولغيره حتى ينفتق لسانه , ويسيل عليه ينبوع الشعر والفنّ ... »
ومن أشهر هؤلاء الرواة زهير بن أبي سلمة كان راوية لعمه أوس بن حجر
وكان كعب بن زهير راوية لأبيه
وقبلهم كان امرئ القيس راوية لخاله المهلهل
الأعشى كان راوية لخاله المسيّب بن علس
أبو ذؤيب الهذلي كان راوية لساعدة بن جؤية الهذلي
طرفة كان راوية لعمّه المرقش الأصغر وكان هو راوية لعمه المرقش الأكبر
كما روى طرفة عن خاله المتلمِّس من بني يشكر حيث تربى طرفة
وقد كان لظاهرة الرواية دور كبير وأثر عظيم في النقد الأدبي يمكننا التماسه من خلال النقاط التالية:
أ. تعليم صناعة الشعر تقتضي ولا بدّ تحديد بعض معالم الجودة والرداءة يأخذها التلميذ الراوية عن شيخه الشاعر الفحل يقول الأستاذ شوقي ضيف في هذا المضمار:: « ... فالشاعر المشهور يلزمه تلاميذ يروون عنه شعره وهم ليسوا دائما من قبيلته ولا من أسرته , فقد يرحل إليه شباب من قبائل أخرى ليتعلموا الشعر على يديه.
ولا توضّح لنا كتب الأدب الطريقة التي كان يتبعها هؤلاء الأساتذة المعلمون في تعليم الشبان الشعر وتلقينهم مبادئه ووسائله سوى ما تُجمله من كلمة "الرواية" وهي كلمة غامضة. تدل طبيعة الأشياء على أنهم لم يكونوا يكتفون بإنشادهم أشعارهم , بل كانوا يضيفون إلى ذلك ملاحظات , يعلمونهم بها كيف يحسنون صنع الشعر وكيف يميزون جيّده من رديئه , وإنما نزعم هذا الزعم لأنه وصلتنا عن معاصريهم بعض آراء وأحكام نقدية وهم بها أولى وأجدر لطبيعة قيامهم على صناعتهم وتوفرهم على تعليمها للناشئة من الشعراء.»
ب. الانتصار لشعرائهم على حساب غيرهم من الشعراء سواء كان انتصارهم معلّلا أو انتصارا ذوقيا فإنّه في كلا الحالتين حكما نقديا
ج. تصرف الرواة في قصائد وأشعار معلميهم بالتعديل والتهذيب
د. الإنشاد المستمر والرواية الدائمة من شأنها أن تفتح قريحة النقد وتسهّل اكتشاف مواطن القوة والضعف في القصيدة
وإلى جميع هذه النقاط يشير الدكتور مصطفى عبد الرحمن بقوله: «وأما عن دور الرواية في النقد في العصر الجاهلي فدورها كبير وللرواة منزلة عالية هناك فهم كالصحف السيارة في الذيوع والانتشار وكانوا يقومون بما تقوم به الإذاعة المسموعة والمرئية في النشر والوصول إلى المستمع المشاهد , وهم كالموسوعات في تسجيل الشعر وحفظه , ومعرفة الشعر وأخباره وقصائده وهم المحامون عن شعرائهم يذوذون عنهم ويدافعون عن شعرهم في إخلاص وحماس , ومن هذا المنطلق أباحوا لأنفسهم نقد هذا الشعر , ثم تعديله بما يتمئ مع هذا النقد في حدود ضيقة تجعل الشاعر يتقبل هذا النقد , وذلك التعديل , لعلمه أنّ راوية شعره مخلص له ولشعره , ولثقته في ذوقه الذي أملى عليه ذلك التعديل , وقد ساعد الرواة على القيام بهذا الدور الذي تقوم به الصحف والإذاعات والموسوعات , والذي يقوم به النقاد عدم التدوين في ذلك الوقت اعتمادا على روايته حفظا من الذاكرة. وهذا التعديل من جانب الرواة قد يفسّر ظاهرة الروايات المتعددة في الشعر على وجه من الوجوه , من حيث ترتيب القصيدة , أو اختلاف بعض كلماتها , ومن حيث الزيادة أو النقصان في أبياتها. ودور الرواة ـ على هذا الوجه ـ دور ناقد , لأنّ الراوية ينشد شعر من يروي له وعمله يقتضي أن يكرر الإنشاد وهذا قد يكشف له ـ في أثناء الإنشاد أو في أثناء مناقشة ما قاله الشاعر ـ بعض العيوب الصغيرة وقد
¥