يقول الأستاذ قصي الحسين: « ... فالعرب كانت لهم فكرة واسعة جدّاً عن تصنيف القصائد في مجالسهم وفي مواسمهم وليس من الغرابة أن يقولوا بالبتّارة وبالمعلّقة وبالسمط وهذه التسميات النقدية التي وصلتنا من مرحلة النقد المروي في العصر الجاهلي هي في الواقع أشبه بالمعالم البارزة التي تشير إلى مرحلة من النقد الأدبي كانت من الازدهار بحيث استطاعت أن تسيطر على جميع المجالس والمنابر والمواسم ... » ويقول أيضا «إنّ الألقاب التي تطلق على القصائد مثل: سمط الدهر , سمطا الدهر , البتّارة , المعلقة , السبعية , إنّما هي نوع من الأحكام في معظم الأحيان»
7) ظاهرة تصنيف الشعراء: ذكرى الأصمعي أنّ العرب كانت تصنّف الشعراء بحسب قوة قريحتهم وتمكّنهم من ناصية الشعر
فأوّلهم الفحل قال والفحولة هم الرواة
ودون الفحل الخنذيذ الشاعر المفلّق
ودون ذلك الشاعر فقط
والرابع الشعرور
ولذلك قال أحدهم في هجاء أحد الشعراء:
يا رابع الشعراء فيم هجوتني وزعمت أني مفحم لا أنطق
والمقصود بالرابع ها هنا أنّه شعرور في الطبقة الرابعة
وقال الجاحظ في تصنيف آخر للشعراء: «وسمعت بعض العلماء يقول طبقات الشعراء ثلاثة شاعر وشويعر وشعرور والشويعر مثل محمد بن أبي حمران سماه بذلك امرؤ القيس ومنهم من بني ضبّة المفوّض شاعر بني حميس ... ولذلك قال العبدي:
ألا تنهى سراة بني حميس شويعرها فويليّة الأفاعي
قبيلة تردد حيث شاءت كزائدة النعامة في الكراع
والشويعر أيضا صفوان بن عبد ياليل من بني سعد بن ليث ويقال أنّ اسمه ربيعة بن عثمان ... »
وقد تقدّم تصنيفهم إلى عبيد الشعر فئة الصنعة والتكلّف وفئة أصحاب الطبع والسجية وممّا ذكره الجاحظ في هذا التصنيف: «ومن شعراء العرب من كان يدع القصيدة تمكث عنده حولا كريتا وزمنا طويلا يردد فيها نظره ويقلب فيها رأيه إتهاما لعقله وتتبعا على نفسه فيجعل عقله ذماما على رأيه ورأيه عيارا على شعره إشفاقا على أدبه وإحرازا لما خوله الله من نعمته
وكانوا يسمون تلك القصائد الحوليات والمنقحات والمحكمات ليصير قائلها فحلا خنذيذا وشاعرا مفلقا»
وروي عن الحطيئة قوله: خير الشعر الحولي المحكّك
وكان الأصمعي يقول: زهير بن أبي سلمة والحطيئةوأشباههما عبيد الشعر وكذلك كلّ من يجوّد في جميع شعره ويقف عند كلّ بيت قاله وأهاد فيه النظر حتى يخرج أبيات القصيدة كلّها مستوية في الجودة
يقول الأستاذ قصي حسين: «فتصنيف النقاد في العصر الجاهلي لفئات الشعراء والخطباء هو الذي كان يدفع بالشاعر لينقد غيره , وهذا النوع من النوع من النقد المبكّر هو الذي قلنا عنه إنّه النقد الذاتي. أماّ التصنيفي فهو النقد الذي كان يواكبه ويحاذيه فيخشاه الشاعر أشدّ الخشية فيعمد على تجويد شعره حتى لا تصيبه سهام النّقاد التصنيفيين ... »
رابعا: خصائص النقد في العصر الجاهلي
1. الذاتية: المقصود بها البعد عن الموضوعية وتأثر الناقد بعوامل خارجة عن النصّ الأدبي وسنكتفي للتدليل على هذه الميزة والسمّة بنموذج حكومة أمّ جندب , فقد اتّهمّ امرؤ القيس زوجته بعدم الموضوعية وأنّ حكمها إنّما أصدرته لصالح علقمة لتعلقها به وحبّها له لا لشاعريته وقوّة أدبه ولعل في زواجها به بعد هذه الحكومة إن صحّت الرواية ما يقوّي شكوك وظنّ امرئ القيس وإن نحن أحسنّا الظنّ بالمرأة فإنّ حكمها لا يخو من تأثيرات خارجية بعيدة عن الموضوعية فالمرأة تحت رحمة زوجها في الجاهلية وطبيعي أن تخشى على نفسها ممّن يعامل ناقته أو فرسه تلك المعاملة ...
2. الجزئية: فقد كان النقد لا يتتبع النصّ الأدبي كلّه يبحث في جميع مناحيه ويدققّ في كلّ أجزائه وجوانبه بل يقتصر على البيت والبيتين أو على اللفظة واللفظتين
كما فعلت أم حندب في اقتصارها على مقابلة بيتين من القصيدتين لا غير يقول الأستاذ شوقي ضيف: «وقد يكون أدخل هذه الأحكام في باب النقد حكم زوجة امرئ القيس ومع ذلك فإنّها وقفت عند جزئية وقد يكون علقمة أشعر في هذه الجزئية من زوجها ولكن زوجها أشعر منه في القصيدة جميعها , على أنّ العيب قد يكون في فرس امرئ القيس , فهو وصاحبه جميعا إنما يصفان الواقع , وحتى إذا سلّمنا لها بأنّ قصيدة علقمة أجود من قصيدة زوجها , فإنّ ذلك لا يعطيها الحقّ في أن تحكم له حكما عاماً بتفوقه في شاعريته عليه وأنّه أشعر منه.»
¥