أما في الأندلس فإن يوحنا أسقف أشبيلية ترجم في النصف الثاني من القرن الثامن أجزاء من العهدين القديم والجديد نقلا عن ترجمة لاتينية.
والظاهر أن هذه المرحلة من تاريخ الحضارة العربية الإسلامية عرفت دون شك ترجمات أخرى كاملة أو جزئية للتوراة أو بقية أسفار العهد القديم أو الأناجيل وإن كنا لا نعرف عنها إلا الشيء القليل.
وقد ركزنا هنا على الترجمات العربية للتوراة لأننا متيقنين بأن ابن حزم كان يجهل اللغة العبرية مثله في ذلك مثل أغلب العلماء المسلمين. يقول حاييم زعفراني: (خلال هذا العصر الذهبي المثالي الذي عاشه العالم اليهودي الإسلامي لم يكن للنخبة المسلمة والمثقفة أي علم بما أسميه التجربة الداخلية لليهودية واللغات والآداب اليهودية والآرامية باستثناء أولئك اليهود الذين أسلموا أو قلة من العلماء غير اليهود الذين تكونوا في مجال الدراسات الربانية على يد أساتذة يهود أو نهلوا معارفهم اليهودية من مصادر غير مباشرة وجعلوا من هذه المعرفة في الغالب أداة للدفاع عن القرآن والإسلام أو التهجم على الرسالة التوراتية التي كان يُقال بأنها حُرفت من قبل اليهود، وذلك على غرار ابن حزم في نقده اللاذع لصامويل بن نغريلة) ( Haïm Zafrani, 2003: 107, note 23).
وبصرف النظر عن موقف حاييم زعفراني من ابن حزم لاعتبارات دينية محضة لا مجال للخوض فيها الآن؛ فإن ما يهمنا هو أن ابن حزم -وخلافا للسموءل بن يحيى بن عباس أو غيره- يُصنف ضمن الفئة الأخرى التي نهلت معارفها اليهودية من مصادر غير مباشرة.
ومع اعتقادنا الراسخ بأن جهل ابن حزم باللغة العبرية نقيصة يقاسمه فيها أغلب العلماء المسلمين (18)، وعلى الرغم من أنه لا يجدر بنا التقليل من شأن الرجوع إلى النصوص الدينية اليهودية في مصادرها، لاسيما في علم مثل علم مقارنة الأديان يقوم أساسا على الاحتكاك المباشر بالنصوص في لغاتها الأصلية؛ إلا أننا نجد ابن حزم يمتلك -مع ذلك- معرفة واسعة باليهودية مكّنته من نقد التوراة وفق منهجية محددة.
وخلافا لما يشاع في بعض الدراسات من كون ابن حزم كان يستقي معلوماته حول التوراة اعتمادا على وسيط فإننا نعتقد جازمين بأن النصوص التي أوردها في الفصل مأخوذة عن نص كان بين يديه؛ وذلك لأن النصوص المستشهد بها جميعها على درجة عالية من الدقة والكمال. ناهيك عن وصف ابن حزم الدقيق للنسخة التي اعتمد عليها. قال ابن حزم: (مقدار توراتهم، وإنما هي مقدار مائة ورقة وعشرة أوراق في كل صفحة منها من ثلاثة وعشرون إلى نحو ذلك بخط هو إلى الانفساح أقرب يكون في السطر بضع عشرة كلمة) (ابن حزم: 198).
إن التوراة والكتب اليهودية الأخرى لم تكن في الأندلس عزيزة المنال؛ فقد كثرت -كما لاحظ ذلك أحمد شحلان- الفتاوى حول هذا النوع من الكتب. بل وحذرت إحدى الفتاوى شراء الكتب من اليهود باستثناء كتبهم الدينية (أحمد شحلان، 1996).
وتتضمن كتب ابن حزم إشارات صريحة لليهود الذين جادلهم أو الأسفار التي رجع إليها. فقد كانت له مناظرات مع إسماعيل بن يونس الأعور الطبيب وإسماعيل بن القراء الطبيب اليهودي وغيرهم. غير أن أشهر المناظرات تلك التي أجراها مع إسماعيل بن يوسف اليهودي المعروف بابن نغريلة (19). (وقد قررت على هذا الفصل أعلمهم وأجدلهم وهو أشموال بن يوسف اللاوي المعروف بابن النغرال في سنة أربع وأربعمائة فقال .. ) (ابن حزم: 152).
إن صامويل بن النغريلة المعروف بالنجيد هو حكيم يهودي وشاعر ولغوي ورجل حرب ورجل دولة ادعى -في مؤلف له عن الإسلام مكتوب باللغة العبرية- وجود تناقض بين آي القرآن. وقد تصدى ابن حزم لدحض هذه الشبهات، وللرد عليه في رسالته المشهورة: في الرد على ابن النغريلة. وهي الرسالة التي صيغت في أسلوب غريب عن آداب المناظرة.
ولم يكن ابن حزم يتوانى عن طلب توضيحات بخصوص الكلمات التي يغمض عليه فهمها، يقول: (وقد أخبرني بعض أهل البصر بالعبرانية أنه لذلك سماه إسرائيل و (إيل) هو اسم الله تعالى بلا شك. ولا خلاف فمعناه أسر الله) (ابن حزم:142).
¥