ومن أقوى الأدلة في إثبات وضع التوراة وتبديلها -كما أشار إلى ذلك ابن حزم- حديث التوراة عن وفاة موسى: (ثم قال في آخر توراتهم: فتوفي موسى عبد الله بذلك الموضع في أرض مؤاب مقابل بيت فغور ولم يعرف آدمي موضع قبره إلى اليوم. وكان موسى يوم توفي ابن مائة وعشرين سنة لم ينقض بصره ولا تحركت أسنانه فنعاه بنو إسرائيل .. ) (ابن حزم: 186).
وهذا نص الاستشهاد كما ورد في التوراة المدونة باللغة العبرية:
???? ?? ??? ??? ???? ???? ???? ??? ??? ???? ??? ??? ??? ?? ???? ?? ???? ??? ???? ?? ??? ?????? ??? ????? ?? ???? ???? ??? ?? ???: ????? ??? ?????
وقد علق ابن حزم على هذه الإصحاحات الواردة في سفر التثنية (34: 5 - 6) قائلا: (إذ لا يمكن أن يكون هذا الفصل منزلا على موسى في حياته، فكان يكون إخبارا عنها لم يكن بمساق ما قد كان، وهذا هو محض الكذب تعالى الله عن ذلك، وقوله: لم يعرف قبره آدمي إلى اليوم بيان لما ذكرنا كاف وأنه ألف بعد دهر طويل ولابد .. ) (ابن حزم: 185 - 186) وهو الدليل نفسه الذي أورده إبراهام بن عزرا (39) في سياق دحضه لنسبة التوراة إلى موسى.
وقد ألمح إليه باروخ سبينوزا قائلا: (لقد ظن الجميع تقريبا أنه موسى، بل إن الفريسيين (40) أيدوا هذا الرأي بإصرار شديد حتى إنهم عدُّوا من يظن خلاف ذلك من المارقين، ولهذا السبب فإن ابن عزرا -وهو رجل كان فكره حرا إلى حد بعيد ولم يكن يستهان به، وهو أول من تنبه إلى هذا الخطأ فيما أعلم- لم يجرؤ على الإفصاح عن رأيه صراحة واكتفى بالإشارة إليه بألفاظ مبهمة. أما أنا فلن أخشى توضيحها .. ) (باروخ سبينوزا 1981: 266).
مخالفة ما ورد في التوراة لمنطق الأشياء
يقول ابن حزم متسائلا: (كيف يمكن أن يتناسل من ولادة واحد وخمسين رجلا فقط في مدة مائتي عام وسبعة عشر عاما فقط أزيد من ألفي ألف إنسان هذا غاية المحال) (ابن حزم: 173).
ودفاعا عن رأيه يستعين بثقافته الموسوعية وعلمه الفياض بعلوم التاريخ والأنساب يقول: (وقد علم كل من يميز من الرجال والنساء أن الكثرة الخاصة من الأولاد لم توجد في العالم لصعوبة الأمر في تربية أطفال الناس ولكون الإسقاط في الحوامل ولإبطاء حمل المرأة بين بطن وبطن ولكثرة الموت في الأطفال ... ولو طلبنا أن نعد من عاش له عشرون ولدا فصاعدا من الذكور وبلغوا الحلم فما وجدناهم إلا في الندرة، ثم في القليل من الملوك وذوي اليسار المفرط .. ) (ابن حزم: 174 - 175).
وبعد أن استفاض ابن حزم في استعراض المكثرين من الأولاد في العرب والعجم واليهود انتهى إلى النتيجة الآتية: (فإذا كانت هذه الصفة لم نجدها منذ نحو ثلاثة آلاف إلا في أقل من عشرين إنسانا في مشارق الأرض ومغاربها في الأمم السالفة والخالفة، ممن علت حاله وامتد عمره وكثرت أمواله وعياله، فكيف يتأتى من هذا العدد ما لم يسمع بمثله قط في الدهر لا في نادر ولا في شاذ لبني إسرائيل كافة بمصر؟!! وحالهم فيها معروفة مشهورة لا يقدر أحد على إنكارها .. ) (ابن حزم:176).
مخالفة ما ورد في التوراة للحقائق الجغرافية
(وبعد ذلك قال ونهر يخرج من عدن فيسقي الجنان ومن ثم يفترق فيصير أربعة رؤوس اسم أحدها النيل وهو محيط بجميع بلاد زويلة الذي به الذهب، وذهب ذلك البلد جيد وبها اللؤلؤ وحجارة البلور، واسم الثاني جيحان وهو محيط بجميع بلاد الحبشة، واسم الثالث الدجلة وهو السائر شرق الموصل، واسم الرابع الفرات) (ابن حزم:118).
وتعليقا على هذا النص يتحقق ابن حزم من صحة المعلومات المتعلقة بمصبات ومنابع الأنهار والأودية ومواقع الثروات الطبيعية أو المعدنية. على سبيل المثال ينفي أن يكون ببلد زويلة اللؤلؤ الجيد (وهذا كذب ما للؤلؤ بها مكان أصلا إنما اللؤلؤ في مغاصاته في بحر فارس وبحر الهند وأنهار بالهند والصين) (ابن حزم:119).
ظروف تداول التوراة من أول دولتهم عقب موت موسى -عليه السلام- إلى انقراض دولتهم، ثم رجوعهم إلى بيت المقدس وانتهاء بتدوين التوراة على يد عزرا الوراق
ويلخص ابن حزم ظروف تداول التوراة فيما يلي:
إن موسى سلم التوراة إلى بني عشيرته من اللاويين، وكأنه اعتبرها تخصهم ولا تخص غيرهم من بني إسرائيل. وقد عهد إليهم بحفظ تابوت العهد وما فيه مما ترك موسى وهارون. وبقوا على ذلك نحو ألف ومائتي سنة لا يصل إلى ذلك المكان أحد سوى الكاهن الأكبر.
¥