إن اليهود بدءا من دخولهم الأرض المقدسة إثر موت موسى إلى ولاية أول ملك لهم وهو شاول ارتدوا سبع مرات.
إن الكثيرين ممن تولوا أمر بني إسرائيل سواء من (مملكة الجنوب) أو من (مملكة الشمال) كانوا بعيدين كل البعد عن الديانة اليهودية (41). مع تولي رحبعام بن سليمان (ت 915 ق. م) الملك انقسمت مملكة إسرائيل إلى قسمين: (مملكة إسرائيل) و (مملكة يهوذا).
فقد انتشرت العبادة الوثنية خلال مائتي سنة وواحد وسبعين سنة في مملكة إسرائيل منذ بدايتها. (ولا كان للتوراة عندهم ذكر ولا رسم ولا أثر ولا كان عندهم شيء من شرائعها أصلاً، مضى على ذلك جميع عامتهم وجميع ملوكهم وهم عشرون ملكا قد سميناهم) (ابن حزم: 196).
وسار ملوك مملكة يهوذا طوال أربعمائة سنة في ذات الطريق الذي نهجته مملكة إسرائيل حاشا خمسة منهم فقط كانوا مؤمنين ولا مزيد. فقد أدخلت عثليا بنت عمري زوجة يورام ملك يهوذا عبادة بعل إلى يهوذا. كما أهمل الملك يوآش الملك الثامن من ملوك يهوذا عبادة الله وعزز عبادة الأصنام في فترات من حكمه. ورجع يهوياقيم إلى عبادة الأصنام وابتعد عن يهوه.
إن عزرا الذي كتب التوراة أو دوَّنها كان وراقا ولم يكن نبيا. وهم -أي اليهود حسب تعبير ابن حزم- (مقرون أنه وجدها عندهم وفيها خلل كثير فأصلحه، وهذا يكفي وكان كتابة عزرا للتوراة بعد أزيد من سبعين سنة بعد خراب بيت المقدس، وكتبهم تدل على أن عزرا لم يكتبها لهم ويصلحها إلا بعد نحو أربعين عاما من رجوعهم إلى البيت بعد السبعين عاما التي كانوا فيها خالين) (ابن حزم: 197). وقد انتشرت التوراة بعد ذلك انتشارا ضعيفا.
إن البداية الحقيقية للديانة وما ترتب عنها من إحداث للصلوات، وإقامة للكنائس لم تتحقق إلا بعد هلاك دولتهم بأزيد من أربعمائة سنة. وخلال هذه المدة الطويلة لم تكن الظروف مواتية قط للحفاظ على التوراة، وحمايتها من التحريف والتبديل.
كتاب الفصل في الملل والأهواء والنحل في ضوء الدراسات الكتابية الحديثة
ترتبط الدراسات الكتابية (أو علم نقد الكتاب المقدس) بفضاء جغرافي محدد هو أوروبا التي مهدت بدءا من عصر النهضة لنشوء قراءة جديدة للعهدين القديم والجديد. ومن أبرز خصائص هذه القراءة الجديدة أنها قطعت صلتها نهائيا بشروح وتفاسير علماء الدين في العصور الوسطى. وجُردت من ثَمّ النصوص الدينية من قدسيتها، وأضحت كباقي النصوص موضوعا للفحص والتمحيص والمساءلة، وطُبقت عليها مناهج مختلفة.
إن تطبيق هذه المناهج العقلانية على النصوص الدينية دفع بالكثير من المختصين في هذا القبيل من البحث إلى التساؤل عن صحة هذه النصوص، والاستفسار عن نسبتها إلى مؤلفيها. ومن الأسئلة الرئيسة التي طُرحت: هل موسى -عليه الصلاة والسلام- هو المؤلف الحقيقي للتوراة؟
شهدت الدراسات الكتابية محطات رئيسة بدأت مع باروخ سبينوزا، مرورا بريشارد سيمون وجون أستريك وغيرهما، وبلغت قمة ازدهارها في القرنين التاسع عشر والعشرين على يد فلهاوزن على وجه الخصوص.
لقد استعرض سبينوزا في كتابه (رسالة في اللاهوت والسياسة) مجموعة من الأسس والمبادئ التي تقوم عليها معرفة التوراة، والتي نجملها فيما يلي:
- ضرورة فهم طبيعة وخصائص اللغة التي دُونت بها التوراة.
- ضرورة تجميع آيات كل سفر وتصنيفها تحت موضوعات معينة.
- ضرورة القيام بفحص تاريخي لأسفار التوراة يُعنى باستجلاء الظروف الخاصة بكل سفر: كيف جُمعت هذه الأسفار؟ وما هي الأيدي التي تناولتها؟ وكم نسخة مختلفة معروفة عن النص؟
وفي ضوء هذه الأسس جزم سبينوزا أن موسى لم يكتب الأسفار الخمسة أي ما يُعرف بالتوراة؛ بل كتبها شخص آخر عاش بعد موسى بعدة قرون. كما أن بقية أسفار العهد القديم المسماة بأسماء الأنبياء والأشخاص هي منحولة عليهم. أما الأحداث التاريخية فيغلب عليها التشويش والاضطراب والتناقض.
¥