وبصدور (مدخل إلى تاريخ بني إسرائيل) ليوليوس فلهاوزن خطت الدراسات الكتابية خطوات عملاقة إلى الأمام. فهو يُعد بحق -حسب محمد خليفة حسن- (المؤسس والمطور الحقيقي لعلم نقد العهد القديم، فقد استفاد من الجهود النقدية السابقة وطورها ووضعها داخل إطار علم مستقل من العلوم الدينية النقدية في الغرب. وقد استفاد بشكل كبير من جهود المسلمين في نقد التوراة، ولم تتحقق هذه الاستفادة بهذا الحجم لأحد من المستشرقين السابقين عليه؛ إذ تميز فلهاوزن بالجمع بين التخصص في العهد القديم والتخصص في القرآن الكريم، وفي الدراسات الإسلامية) (محمد خليفة حسن، 2006: 20).
لقد لاحظ يوليوس فلهاوزن التناقضات الكثيرة التي تتسم بها نصوص التوراة. وللخروج من هذا المأزق اهتدى إلى حل تمثل في نظرية تعدد مصادر التوراة. وفي ضوء هذه النظرية قُسمت التوراة إلى تقاليد تُشكل مصدر الأسفار، وأصبح اعتماد الفروق في اسم الرب معيارا للتمييز بين هذه المصادر.
وهذه باختصار التقاليد المختلفة التي تتكون منها التوراة وأسفار العهد القديم وهي على الترتيب:
1 - مصدر يهوي يُرمز له اختصارا بالرمز J وقد استمدت هذه التسمية من اسم الإله يهوه ويعود تأليفه إلى حوالي 850 ق. م في مملكة يهوذا أي المملكة الجنوبية.
2 - المصدر الإلوهيمي ويرمز له اختصارا بالرمز E نسبة إلى إيل أي الإله ومن المرجح أن زمن تأليف هذا المصدر كان حوالي 770 ق. م في المملكة الشمالية.
3 - مصدر تثنية الشريعة ويرمز له اختصارا بالرمز D والظاهر أنه ألف خلال القرن السابع قبل الميلاد.
4 - المصدر الكهنوتي ويرمز له اختصارا بالرمز P وهو يرجع إلى القرن الخامس قبل الميلاد وإلى النصف الأخير منه على وجه التحديد.
إن السؤال الذي يُطرح، بعد أن فرغنا من الحديث عن الدراسات الكتابية الغربية، هو ما حدود القيمة العلمية لكتاب (الفصل في الملل والأهواء والنحل) لابن حزم؟
لم تكن لابن حزم دراية باللغة العبرية ولا بأي لغة من اللغات السامية التي كانت معروفة في عهده، ولم يُدرك ميلاد الكثير من التخصصات العلمية التي ظهرت لأول مرة في القرون الأخيرة، ولا علم له بالتحولات الكبرى التي ستعرفها تخصصات علمية أخرى. بعبارة أخرى إن الخلفية الفكرية والثقافية والسياسية التي أحاطت بتأليف (الفصل في الملل والأهواء والنحل) لا تماثل لا من قريب ولا من بعد ظروف نشأة علم مقارنة الأديان والدراسات الكتابية في أوروبا.
إلا أن المنهجين التاريخي والفيلولوجي الذين اتبعهما ابن حزم في نقده لنصوص للتوراة، والنتائج التي انتهى إليها بشأن صحة هذه النصوص تجعل منه مؤسسا حقيقيا لعلم مقارنة الأديان ورائدا في علم نقد التوراة. ولا يبالغ أحمد شحلان حينما يقول بأن ابن حزم (استخدم في نقده هذا أفضل المناهج الفيلولوجية، وأدق مناهج المقارنات النصية المبنية على المنطق والحساب كما نعرفها اليوم. وكثير من المراجع الحديثة التي اعتمدناها، والتي أرخت لبني إسرائيل وتناولت كتاب العهد العتيق بالنظر، اتبعت منهج ابن حزم دون أن تشير إلى ذلك، بل الأصح أن نقول دون أن تدري بذلك؛ وذلك لأن مرجعها الأساس كان سبينوزا الذي -وإن لم يشر إلى ابن حزم مباشرة ضمن مصادره- أشار إلى ابن عزره تلميذ ابن حزم الذي شاركه العلم والموطن) (أحمد شحلان، 2002: 78).
خلاصة
على الرغم من أن ابن حزم لم يعتمد في نقده للتوراة على النصوص العبرانية إلا أنه استطاع -بما توفر لديه من ترجمات عربية، وعلم بالتاريخ، ودراية بالأنساب، وتمكن من الفقه والمنطق والجدل- أن يشق في كتاب (الفصل في الملل والأهواء والنحل) طريقا جديدا في دراسة الأديان. من أبرز سماته أنه جمع في كتاب واحد ما بين التأريخ للديانتين اليهودية والمسيحية، والمقارنة بين الأديان ونقد التوراة ونقد الأناجيل.
¥