تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولا شك أن الغزو الصليبى والمغولى لبعض ديار المسلمين قد زعزع ثقتهم فى أنفسهم، فقد كانت هاتان الهجمتان أول غزو لبلاد الإسلام، ففوجئ المسلمون بانقلاب الأوضاع. وبعد أن كانوا يفتحون البلاد ويقبل الناس على دينهم ويتعلمون لغتهم ويقلدونهم فى الكثير من عاداتهم وتقاليدهم إذا بهم يصبحون هدفا للغزو، وتهاجَم بلادهم، وينتصر عليهم أعداؤهم بعدما كانوا رمزا للنصر الذى لا يتخلف، والنجاح الذى لا يستأخر. فقد رأى المسلمون نصارى أوربا يتركون ديارهم وينقضون على شواطئ الشام بغية أخذ بيت المقدس منهم وإعادتها كرة أخرى إلى حضن الصليب. ومعروف أنهم قد مكثوا على سواحل الشام لمدة قرنين من الزمان واسْتَوْلَوْا على عدد من مدنه، وهو ما كلف المسلمين الغالى والنفيس والزمن الطويل قبل أن يستطيعوا دحرهم وإرجاعهم على أعقابهم خائبين. وقل مثل ذلك عن التتار وتوحشهم وعُرْيهم من الحضارة مظهرا وروحا وما سفكوه من دماء إسلامية غزيرة دون أدنى اعتبار أو مبالاة، مما كان له آثاره المزعزعة على النفس المسلمة، إذ كانت صدمة لم يفيقوا منها بسهولة حتى بعدما أحرزوا النصر النهائى عليهم وكسروا شوكتهم فى عين جالوت على يد المماليك. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل كانت هناك أيضا الحملات الاستعمارية التى لم تكد تترك بلدا مسلما دون غزو واحتلال وتكبيل بالمعاهدات واستنزاف للثروات وإهانة للكرامة الدينية والوطنية. وما كان لهذا أيضا أن يُنْسَى بسهولة أبدا، وبخاصة أن العدو واجههم فى هذه الحملات وهو متفوق عليهم فى كل أسبابها من سلاح وعلوم وتنظيم وتخطيط ونفس طويل وطموح وتوثب إلى المعالى وقدرة على الصبر وعشق للمغامرة وتحديد للهدف. وما زلنا نعانى من هذه الصدمة إلى الآن حتى لأصبح يخيّل لكثير منا ألاّ قِبَل لنا بمواجهة الغربيين. بل لقد ظهر من بيننا من ينادى بأن نكون أتباعا لهم إذا أردنا أن نتحضر مثلهم، غافلين عن أن أروبا حين جاءت بجيوشها إلى بلادنا إنما قد أتت لسرقتنا والاستبداد بنا والقضاء على هويتنا، ومن ثم لن يتركونا نتقدم ونساويهم أبدا. أى أنهم لن يجنحوا إلى السلم حتى لو جنحنا نحن إليه، بل سيظلون كاتمين على أنفاسنا رازحين فوق صدورنا. ذلك أنهم قد أَتَوْا للسرقة والقتل والتدمير والاستعباد لا لمساندتنا فى الخروج من تخلفنا وضعفنا كما يزعمون هم وأولئك المرجفون خداعا لنا وتحطيما لروحنا المعنوية، التى نستلهمها فى الصمود أمامهم ومقاومة مخططاتهم. وإذا كان الاستعمار قد اختفى ظاهريا من كثير من بلاد المسلمين فهو فى الحقيقة لم يزل رابضا فيها، وإن لم تدركه العيون العَشّاء. نعم لا يزال رابضا فى كثير من الديار الإسلامية فى صورة معاهدات سياسية مجحفة تخرب الديار، واتفاقات سياسية وثقافية تدمر النفوس والضمائر، وقواعد عسكرية مجرمة تقوم بدور الجاسوس على كل ما نأتى وما ندع ولا تترك لأى حر فرصة ليعمل ما من شأنه مصلحة الوطن والمواطنين، مع بعض ما يسمى بـ"المساعدات الاقتصادية" مما لا ينتفع بها الوطن فى قليل أو كثير لأسباب ليس هذا موضع شرحها، علاوة على أن البلاد التى تتلقى ما يطلق عليه: "المساعدات الاقتصادية" تقدم للدولة المانحة من المساندات ما لا تساوى تلك المنحة قبالتها شيئا ذا بال.

على أن للاستعمار الغربى ناحية إيجابية، إذ أيقظ النوام وقضى على السكون القاتل الذى كان سائدا، وحرك العقول والضمائر، وحث النفوس الزكية على الاجتهاد والجهاد من أجل استعادة الكرامة واسترجاع السيادة الضائعة. وعن دور الاستعمار فى تاريخ المسلمين المعاصر يكتب مالك بن نبى متسائلا: "ما الذى بعث العالم الإسلامى من نومه قرنا؟ من الذى أيقظه من خمسين سنة تقريبا؟ إنه الاستعمار. نعم إنه قد خلع بابنا، وزعزع دارنا، وسلب منا أشياء ثمينة. لقد أخذ من حريتنا وسيادتنا وكرامتنا وكتبنا المنسية وجواهر عروشنا وأرائكها الناعمة التى كنا نود أنْ لو بقِينا عليها نائمين! ولكن إذا كان هذا هو الواقع الاستعمارى فيجب أن نعترف بأنه أيقظ الشعب الذى استسلم لنوم عميق بعد الغَدَاء الدسم الذى أكله عندما كان يرفل فى نِعَم حضارته. والتاريخ قد عوّدنا أن كل شعب يستسلم للنوم فإن الله يبعث عليه سوطا يوقظه" (مالك بن نبى/ شروط النهضة/ 149 - 150).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير