تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إلا أنه سرعان ما ينبه إلى فخ خطير يقع فيه كثير من الشعوب التى ابتليت بالاستعمار. ذلك أن هذا المعامل الاستعمارى (كما يسميه) "يخدع الضعفاء فى الواقع، ويخلق فى قلوبهم رهبة وخوفا ووهما، ويُشِلّهم عن مواجهته بكل قوة، وإن هذا الوهم ليتعدى أثره إلى المستعمرين أنفسهم فيغريهم بالشعوب الضعيفة، ويزين لهم احتلالهم إذ يحاولون إطفاء نور النهار على الشعوب المتيقظة، ويدقون ساعات الليل عند غرة الفجر وفى منتصف النهار لترجع تلك الشعوب إلى العبودية والنوم" (المرجع السابق/ 151).

وهذا ما يسميه ذلك الفيلسوف الكبير: "القابلية للاستعمار"، أى شعور الأمم الضعيفة بأنها ينبغى أن تخضع للأمة القوية التى تريد استعمارها فلا تقاومها، بل تتركها تفعل بها ماتشاء مهما كانت وحشيته وشناعته دون أن تحس بأى سخط أو ضيق، بل دون أن تحس بأى أمل فى النجاح إذا ما خطر لأحد منها أن يدعوها للمقاومة والتخلص من نير العبودية. وهو يدعو أولا إلى التخلص من تلك القابلية للاستعمار (المرجع السابق/ 154). وأنا معه فى أن للاستعمار ذيوله وخصيانه فى كل بلد إسلامى، وهم كثر للأسف، ولا بد من العمل على أن يتخلص المسلمون من تلك القابلية للاستعمار التى أشار إليها وأبرزها وبين خطورتها. لكن لا بد أن نتنبه إلى أن القابلية للاستعمار ليست هى جوهر المشكلة، بل مجرد عرض لها، أما المشكلة فهى فقدان الكرامة. وهذه الكرامة المفقودة هى السبب فى نشوء تلك القابلية للاستعمار لدينا، ولو كانت أمتنا عفية قوية واثقة بنفسها شاعرة بكرامتها وعزتها لما كان للاستعمار ذلك الأثر الشيطانى، بل لما وصلت أصلا إلى هذا الدَّرْك الأسفل من الضعف الذى يغرى الاستعمار باقتحام عقر دارها ليستذلها ويمتطيها.

لقد كان العرب فى الجاهلية يعانون من التخلف والفقر والجهل والتمزق والصراع القبلى الذى يكاد يفنيهم، لكنهم لم يفقدوا قط شعورهم بالكرامة، بل كانوا يَسِمُون الأمم من حولهم بـ"الأعاجم"، فكأنها حيوانات عجماء بالنسبة لهم. ترى هل كان العرب يقدرون على حمل مشعل الإسلام والانطلاق به فى الأرض شرقا وغربا وشمالا وجنوبا لو كانوا، كما هم الآن، فاقدين الشعور بالعزة والكرامة؟ ذلك أن منبع التقدم الحضارى فى رأيى هو رفض الأمة أن تعيش عيشة لا تليق بها، فتراها لا يهنأ لها عيش ولا يرتاح لها بال إلا إذا نالت من الحياة ما ينبغى أن يناله الإنسان العزيز الكريم مالا وجاها وعلما واحتراما وسيادة وجمالا ونظافة ونظاما ... أما الذليل فإن فقدانه لهذه الأشياء لا يشكل أى إزعاج له، إذ إن انحطاطه النفسى والخلقى يمنعه من الشعور بشناعة الأمر على الإطلاق، فتراه يتصرف وسط القذارة والقبح معايشا الجهل والخرافة، متنفسا الخنوع والمذلة، مقاسيا العوز والفقر، معانيا الضيق والحاجة، ومع ذلك يتصرف كأنه يعيش فى بحبوحة الفردوس الأعلى ويتقلب فى نعيمه الرغد المقيم. الحق أنه ما لم ينبت الوازع من أعماق النفس فمن الصعب نجاح أى أمر. دعك من أن يكون هذا الأمر فى خطورة الانبعاث الحضارى، وهو الموضوع الذى يشغلنا الآن.

ومما عاناه المسلمون أيضا، وكان من أسباب انهيارهم أمام الهجوم الاستعمارى الأوربى، انتشار الخرافات والإيمان بالسحر بدلا من العلم، وانعزالهم عن مجرى الحياة إلى الأركان المظلمة التى يخيم عليها عنكبوت الجهل والأساطير التى لا تليق بالمتحضرين، وبخاصة إذا كانوا ينتسبون إلى الإسلام دين العلم والفكر المستقيم. لقد كان لدى المسلمين فى عصور تخلفهم إيمان عنيف بالعفاريت، واعتقاد فى المتصوفة وكراماتهم وقدرتهم على الإتيان بالمستحيل، وانتظار للمفاجآت والعجائب التى لا تقع أبدا، من كنز يأمل الناس أن يجدوه فى خَرِبَةٍ أو بيت مهجور مثلا، دون أن يغيروا أسلوبهم فى الحياة ودون أن يتعلموا العبرة من تجاربها أبدا. وانتشر الاعتقاد فيمن يطلَق عليهم: "الأولياء" و"الصالحون" ظنا من الجماهير المغيَّبة أن لهم كرامات يقضون بها حوائج العباد، وشفاعات يستطيعون التوسط بها عند الله سبحانه فتجاب وساطاتهم، مما ترتب عليه تفشى العجز بين المسلمين وترك العمل والإخلاد إلى الإهمال والكسل وسقوط الهمم رغم أن من يسمونهم بالأولياء والصالحين لم يكونوا يملكون لأنفسهم أى نفع، وهم أحياءٌ، فما بالك وقد صاروا الآن أمواتا وتحللوا ترابا؟ أتراهم أفضل من

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير