تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

النبى محمد عليه الصلاة والسلام، وهو الذى أمره ربه أن يعلن للناس دون أدنى مواربة أنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله؟ ولا تنس كذلك انتشار القذارة وسيادة التبلد تجاه الأوبئة الجائحة والرضا بالفقر والهوان والتعاسة كأنها ضربة لازب لا فكاك منها.

وفى مثل هذا الجو لا ينبغى أن يتوقع الإنسان إبداعا علميا أو كشفا بحثيا أو رغبة فى تقدم أو تحضر. لقد كان الجو خاملا بليدا متخثرا لا ينبئ بحياة كريمة أبدا، فى الوقت الذى كانت أوربا فيه تتوثب وتتقافز فى كل ميدان: فى الكشوف الجغرافية التى انطلقت من خلالها تجوب أرجاء العالم، وانتزعت بها السيادة على البحار، وامتلكت بها الثروات، وامتلخت بها قارتين كاملتين هما أمريكا الشمالية وأستراليا بعدما قضت على سكانهما الأصليين، وهو ما لا نعرف أنه قد وقع من قبل فى التاريخ. وهذا التوثب قد حدث نظيره فى ميدان العلوم الطبيعية، التى كانت قد نامت عندنا نومة أهل الكهف وحلت محلها الخرافات والضلالات، وكذلك فى ميدان الحكم الشُّورِىّ، إذ قامت الثورات الشعبية فى أوربا ضد الاستبداد الذى كانت شعوبها تعانى منه على مدى قرون وقرون، فتخلصت إلى حد كبير منه، فى الوقت الذى ما زالت معظم بلاد المسلمين ترزح تحته راضية به، وكأنه غاية المنى! وقل هذا أيضا فى ميدان التخطيط العمرانى، إذ بدلا من القذارة والفوضى والفقر والبؤس الذى كان يطبع مدن أوربا وقراها شرع الأوربيون يعيدون تخطيط مدنهم وقراهم مراعين أصول النظافة والسعة والجمال والخضرة وتمهيد الشوارع على نحو سلس جميل، مع التخلص من المخلفات بطريقة متحضرة فلا تقع عليها العين ولا يشمها الأنف ولا تتأذى بها الملابس والجلود، فضلا عن إنارة الطرق. وهو ما كان مصلحوهم قد دَعَوْا إليه وحثوا شعوبهم على تنفيذه واضعين فى ذلك كتبا تصور للناس "المدينة الفاضلة"، أى المجتمع المثالى الذى يتطلعون إلى تحقيقه لأنه هو المجتمع الذى يليق بالإنسان، كلٌّ يتخيله حسب فهمه وعقيدته السياسية والاجتماعية والغايات التى ينشدها للناس من حوله، ناهيك بالثورة الصناعية التى نقلت أحوال الأوربيين من حال إلى حال، وما تبعها من تطوير وسائل المواصلات والأسلحة والخطط الحربية، مما لم يكن فى أيدينا منه شىء ذو بال، اللهم إلا إذا استوردناه منهم واستعنّا بهم فى تعلمه واستيعابه. ومعروف أنهم لا يعطوننا شيئا من ذلك لأجل مصلحتنا أبدا، بل يعطونناه ليحارب به بعضنا بعضا، ثم إذا ما أدينا المهمة التى خططوها لنا ودفعونا إلى التورط فى إثمها انقلبوا علينا وتخلصوا منا بأيسر سبيل بعد أن تكون قوانا قد خارت، وتوقف تدفق السلاح والمدربين. هكذا فعلوا مثلا مع محمد على، الذى أنفق ما أنفق فى بناء جيش مصرى قوى لم يستعمله إلا فى ضرب الوهابيين وفى محاربة الدولة العثمانية، ثم عقب فراغه من أداء الدور المطلوب انقلبت أوربا كلها عليه وحطمته تحطيما، وانتهى الأمر بعد عدة عقود باحتلال إنجلترا لمصر، واحتلال فرنسا كذلك للشام بعد أن كانت احتلت الجزائرَ فى عهده دون أن يفكر أبدا فى مد يد المساعدة لإخوانه الجزائريين ... وهذا مجرد مثال، ومازال يتكرر حتى هذه اللحظة، ونحن لا نتعلم أبدا ولا نستوعب الدرس. والتاريخ لا يرحم، وربك لا يظلم أحدا.

ولكى تعرف طرفا من الخرافات والضلالات التى كانت تعشش فى عقول الناس وقلوبهم أيام تخلف المسلمين وأفول شمس حضارتهم أورد بعض ما كتبه أحد المتصوفة المشاهير بمصر فى القرن العاشر الهجرى، وهو الشعرانى، الذى حكى فى "منن اللطائف" مثلا ما يلى طبقا لما نقله عنه د. زكى مبارك فى كتابه عن "التصوف فى الأدب والأخلاق": "كان فى بيتى امرأة من الجن، فكانت إذا قَرُبَتْ منى قامت كل شعرة فى جسدى، فكنت أذكر الله فتبعد من وقتها. ثم كانت تقف فى طريقى إلى المسجد فى الظلام، فما فزعت منها قَطّ، بل كنت أمر عليها فى المجاز المظلم فأقول لها: السلام عليكم. وما نفر خاطرى منها قَطُّ مع أن طباع الإنس تنفر من الجن! وسكن عندى مرة أخرى جماعة من الجن أيام الغلاء، فكنت أقول لهم: "كلوا من الخبز والطعام بالمعروف، ولا تضروا بإخوانكم المسلمين"، فأسمعهم يقولون: سمعا وطاعة! وسكن جنى فى بيتى مرة أخرى، فكان يأتى كل ليلة فى صورة جَدْىٍ كبيرٍ فيطفئ السِّرَاج أوّلاً ثم يصير يجرى فى البيت، فكان

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير